٭ لم يكن الحكم بالاعدام الذي واجهه صدام، مرفوع الرأس مكشوف الوجه، في أعقاب الغزو الامريكي لبلاده.. هو الأول في حياته.. فالمحكمة العليا في بغداد كانت قد اصدرت حكماً باعدامه وبعض رفاقه بعد فراره الى القاهرة عام 0691 بتهمة محاولة اغتيال الرئيس عبد الكريم قاسم.. مما أثار موجة مواجهة جديدة بين البعث والسلطة الحاكمة.. وبالرغم من ذلك قطع صدام دراسته الجامعية عام 1691.. وعاد الى العراق بناء على توجيهات الحزب الذي كان يُعد لانقلاب ضد عبد الكريم قاسم.. حيث استطاع ان يطيح بالنظام في 41 فبراير 3691.. ليتم تنصيب عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية.. كان ذلك هو العام الذي شهد فيه صدام بعض الراحة ليتزوج من بنت خاله «ساجدة خير الله طلفاح».. وتم تعيينه مشرفاً على التنظيم العسكري لحزب البعث.. لكن الامر لم يستقر بين يدي الحزب بالكامل.. فبحلول نوفمبر من ذلك العام (3691) اقدم عبد السلام عارف على انقلاب ضد البعثيين اثر خلافاته العميقة مع الحزب.. وكان من بين المعتقلين في ذلك الانقلاب صدام حسين ايضاً، لكنه استطاع الهروب من السجن.. وكعادته ظل ملاحقاً ومتخفياً في مناطق العراق المختلفة.. وتوثقت صلته خلال هذه الفترة -فترة حكم الحزب وعبد السلام- مع قريبه رئيس الوزراء حينها احمد حسن البكر، كما تمكن في هذه الفترة من تأسيس تنظيم عسكري للحزب قوي وفعال. ٭ خلال هذه الفترة أيضاً.. فترة حكم الشراكة بين البعث والقوميين بقيادة عبد السلام عارف.. وفي تزاحم الأحداث غادر صدام العراق الى سوريا حيث التقى ميشال عفلق مؤسس الحزب ومُنظره وأجرى مناقشات معمقة مع قيادة الحزب في سوريا.. فكسب صدام ثقة عفلق وتوثقت علاقتهما.. ونال اعجاب القيادة القومية التي اختارته عضواً فيها.. ونصحته بالبقاء في دمشق خوفاً عليه من بطش عارف، إذ نما الى علم تلك القيادة حقيقة الخلافات الشديدة بين الحزب وعارف.. لكن صدام رفض نصيحة الحزب وعاد لبغداد.. حيث بدأت أجهزة أمن النظام تحقيقات وملاحقات انتهت بالقاء القبض عليه في 41 أكتوبر 4691 واودع في زنزانة انفرادية بالسجن الحربي وتعرض للعسف والتعذيب الوحشي.. فقررت قيادة الحزب في سورياوالعراق مكافأته باختياره وانتخابه أمين سر للحزب وهو لا يزال حبيساً. ٭ مرة أخرى تجلت قوة شكيمة صدام حسين ومهارته التنظيمية في تدبير الهروب من السجن الحربي، بمساعدة بعض رفاقه من كوادر الحزب، أثناء اقتياده من محبسه لإحدى جلسات المحكمة العسكرية التي كانت تجرى له في 32 يوليو 6691.. مما شكل صدمة عنيفة وهزة قوية لنظام الرئيس عارف.. فكثفت الأجهزة الأمنية عمليات البحث والمطاردة في كل اتجاه دونما فائدة.. وشاءت الأقدار أن يلقى عبد السلام عارف مصرعه في تحطم طائرة عمودية، ليتولى السلطة بعده شقيقه عبد الرحمن عارف.. وبدأ الحزب يخطط للاستيلاء على السلطة من جديد.. وكان لصدام -قائد التنظيم السري والجهاز الامني المعروف ب(حنين).. دوراً بارزاً في التخطيط والاشراف على تنفيذ خطة الانقلاب الذي اطاح بعبد الرحمن عارف في يوليو (تموز) 8691.. بل كان صدام على رأس المجموعة التي اقتحمت القصر الجمهوري وقضت على عارف معلنة نهاية النظام وبداية عهد جديد لحزب البعث في العراق.. وتم تشكيل مجلس قيادة الثورة بقيادة الفريق أحمد حسن البكر. ٭ وبرغم ذلك بقى صدام لبعض الوقت في الظل.. ولم يعين نائباً لرئيس المجلس، مع قيامه عملياً بتصريف مهام المنصب.. حتى تم تعيينه رسمياً في 9 نوفمبر 9691.. وبحكم موقعه التنظيمي كأمين سر الحزب ومسؤول الأمن الداخلي فيه.. وخلال عشر سنوات أمضاها في منصب نائب الرئيس -وكان العراقيون ينادونه خلال تلك الفترة بلقب «السيد نائب»، كان صدام هو الحاكم الفعلي للعراق.. واستطاع أن يسهم اسهاماً فعالاً وكبيراً في بناء مؤسسات الدولة وهياكلها -وفقاً لرؤاه وتوجهاته- ابتداءً من الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وكافة مؤسسات الحكم والخدمة العامة وخطط التنمية.. وبنى خلال هذه الفترة علاقات ممتدة في العالمين العربي والاسلامي.. ولعب الدور الرئيس في قرار تأميم صناعة النفط العراقية بحلول عام 2791.. وهنا يمكن القول بإطمئنان ان تلك كانت بداية نمو القشة التي ستقصم ظهر صدام ونظامه مستقبلاً.. كما بدأ الرجل (النائب) المشروع المهم والاستراتيجي الآخر «مشروع محو الأمية» في العراق، بل فرض عقوبات تصل الى السجن ثلاث سنوات لمن يتخلف عن فصول محو الأمية.. وكان من أكبر ثمار هذا المشروع تعليم مئات الالاف من العراقيين من الجنسين نساء ورجالاً واطفالاً القراءة والكتابة.. كما وقع في تلك الفترة ايضاً -6 مارس 5791- في الجزائر، وبعد وساطة ناجحة من الرئيس الأسبق هواري بومدين، اتفاقاً لترسيم الحدود مع ايران، وتم اقتسام «شط العرب» مع نظام الشاه محمد رضا بهلوي، مقابل ان تكف ايران عن التدخل في الشؤون الداخلية العراقية والعمل لزعزعة استقراره وأمنه، ومن ذلك دعمها للتمرد الكردي في الشمال.. كما زار فرنسا واتفق معها على مشروع الطاقة النووية السلمية.. وقاد صدام أيضاً وفد الحكومة العراقية للمفاوضات مع المتمردين الأكراد، وأصبح بذلك المهندس الفعلي لاتفاقية «الحكم الذاتي» الذي منح الاقلية الكردية في 11 مارس 4791 الحق في ادارة محلية-ذاتية لمنطقتها في اطار العراق الموحد. ٭ حدث كل ذلك، وصدام نائباً للرئيس البكر، حتى 61 يوليو 6791، عندما قطعت وسائل الاعلام العراقية ارسالها «فجأة» لتعلن عن «بيان هام» استقال بموجبه الرئيس البكر -بالنظر لتقدم السن وتدهور حالته الصحية، كما قال البيان- ليتولي صدام حكم العراق.. وفهم الجميع في العراق وخارجه الرسالة: إن «القائد الفعلي» قرر تصريف مسؤولياته مباشرة وعلناً، منهياً مرحلة العمل من خلف الستار أو بالنيابة. (نواصل)