أصبحتُ «خبَّازاً يَخْبِزُ خُبْزاً»..! وربما كان أهلي في تنقسي الجزيرة يفخرون بي، ويقولون إنني غدوت مغترباً يتلاعب بالدولار والشيكات السياحية كيف شاء، ولا شك أن عَذارىَ الحي، كُنّ يتوجسن عودتي متأبطاً عروساً اشتراكية من جماهيرية الله العُظمى..! لكنني عدت خائباً من غربتي، وجدتكم في ذات الحال.. متحركاتكم تزحف، ووزراؤكم يدّعون تمزيق فاتورة القمح، والكادر المُتقدِّم يهتف (في سبيل الله قُمنا)، وكان الترابي والبشير، كما هو الحال الآن، عسلاً على لبن.. لم يتغير شيء، عدا شكوى كليمة في ذلك الزمان، ظل يفردها حسين سليمان أبوصالح، ( تِحِتْ، تِحِتْ ).. تلك الشكوى كانت تقول إن أحاديث الرائد يونس جلبت الخراب لعلاقاتنا الثنائية مع دول الجوار..! أخفيتُ خيبتي الإشتراكية، وقررت الانخراط في عمل مفصلي، من الداخل، للإطاحة بالنظام،، فهل هو حلالٌ على بلابل الأُخوان، حرامٌ عليَّ أنا..؟! كتمتُ أسراري المُفجِعة حتى أغدو كما يُعْتَقَد، بأن الأفندية لايعرفون غير التظاهر السلمي، كوسيلة للتغيير..! في اليوم الأول مع وظيفتي كخبَّاز، أكرمني التوانسة والمرّوكِيّون.. ضيَّفوني ب (تعتيل) الدقيق، وتستيف العيش الحار للزبائن، وكِناسة الفُرنْ..! في كناسة الفُرنْ الذي لا ينظف إلا ليتّسِخ ، عرفتُ معنى أن يكون الواحدُ مِنّا (رِيحتو طير طير)..! لا ثوري خارج اللِّجان الثورية، إلا أنا..! ربِّي الذي وقر في قلبه أن السوداني (مُسَّكْرْ)، وصاحب دماغ ناشفة، رآني في شقْوتي، فكان تحفيزه لي أن ناداني من داخل كمين الشوالات: عبد الله يا سُوداني، والله أنت سبْع.. باهي باهي.. شايف هاي الخُبز..؟ هاي الخبز كله بُتُوعَك، تأكل منه زي ما أنت عاوز، ما حدا يِسألكْ، بس ما تاخدش معاك للبيت، عِرفتْ عليّ..! عاجلته ب (باهي، باهي)، ملتزماً بوصايا السادة السوادنة، الين أكدوا في وصاياهم، أن كلمة السر في وطن المفاتيح، أن تكون (باهي) في طرف اللسان، تزلُقُها حتى على من لا يسلم عليك..! وقال السوادنة عليهم رضوان الله، في الوصايا، أن الحديث في السياسة في بلاد المفاتيح الليبية حرام، وأن الحديث في الدين هلاك، وشدّدوا في موعظةٍ حسنةٍ : إيّاك تجيب سيرة (آسْ الدِّينَارِي)..! ولى المساء، ولى المساء.. ولى المساء، وأنا بين الشوالات والخبز الحار.. كان عرقي يشرشر، عندما هاتفني هاتفٌ من سمائهم..! أنه الشبل ابن الرّب الذي لا يُعصى،، وأمانة الله ما كريم..! أخرجني ذلك الشِبْل من كمين العِتالة، وقال إنه «يِبّْيِنيِ»..! يَبْغِيني أن أذاكر له المنهج الدراسي للجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى..! قلت بكل ما وسعني من استعراب: ( ولكن كيف تسمح لي أيها الشبلُ السعيد، بدخول داركم القشيبة، وأنا بهذا الوغش العُمّالي)..!؟ هزَّ الشِبْل رأسه مستغرباً أن ينضح مثلي بقولٍ مفهوم، فقال :(شِين تِبِّي)..؟! قلت له بخليطٍ من سودانيتي المُشتهاة واستعرابي: يا بني آدم، دايرْ ليِ حمّام.. حتى أبدو عضواً في هيئة التدريس..! كان مساء التاسعة يدُقُ في الإذاعة العُظمى.. مقدمة نشرة الأخبار أطول من لسان الرائد يونس، وعلى بهاء الشّاشة يُطِلُّ آسْ الدِّينَارِي ، وهو يلعن (....) أمريكا..! كان الشبل زاهداً في العِلم، وكنت أنا زاهداً في كل شيء ذي صلة بالفكر القومي، وبرأس المال، وبكل الثوابت..! بدأت معه بدروس التاريخ.. يقول الكتاب أن شمس الجماهيرية أشرقت، وأن الأرض بما فيها أُم دقرسي، عِدّ الغنم، ومِقيطيعة، ماهي إلا جزءٌ من ذلك الإشراق..! بدأت في (مُعَافرة) ذهن الصبي، عسايَ ازرع هناك جملة مفيدة،، لكن لا فائدة، فهذه مُهِمة أصعب من تعتيل شوالات الدقيق..! كان الشِبْل- باعتباره دولة المقرّ- يستجوبني: عِنْدُكُم في السودان مدارس..(عِنْكُمْ) في بِلادِكُمْ خُبْزا.. كُلْكُمْ سُوّادين هِكِّي..!؟ أيها الناشطون الطلقاء.. ها أنذا في بلاد المفاتيح، أبحثُ عن قوتَ يومي (زنقة زنقة)، فلا تلوموني..! لقد اكتشفت هناك، أن بِي شوقاً الى إحتضان، أي حاجة فيها ريحة السودان، حتى لو كانت تلك الحاجة هي، أمين حسن عمر..!