حاج الأمين، يفخرُ بأنَّهُ كان صاحب أول »طابونة« في »المديرية الشمالية«، قبل بضعٍ وستين عاماً «والطابونة، يا صاح، اسمٌ قديم للمخبز، أو الفُرن، الذي فيه يصنعُ الرغيف» ولم يكُن أهل الشمال قبل »طابونة« حاج الأمين يعرفون خُبزاً يُباع لطالبه بالمال، فالخبزُ والماء كانا كالنار والكلأ، من باعهما ارتكب عاراً لا يمحوه الدهر.. يقول لي »حاج الأمين« ضاحكاً: عليك أمان الله يا ولدي، الناس بقوا يحدروا لي كأني فتحت »إنداية« «والإنداية، لمن فاتهم عهدها قبل شريعة الإمام الراحل جعفر النميري رضي الله عنهُ وأرضاه، هي مكانٌ لبيع الخمور الشعبية».. لكن ربَّك ربَّ الخير، ناظر المدرسة كان بيشتري مني رغيف للداخليات .. وبعدها بشوية جاء عمَّك هارون فتح مطعماً وبِقى يشتري مني رغيف، وبيع الأكل برضو كان عيباً، علاَّ أفندية المديرية كانوا بشيلوا منه فطورهم .. - وأنا، يا مولانا، لا آتي هنا على ذِكر حاج الأمين عبثاً، فقد توجهتُ إليه عصر الأمس، عامداً، وفي نفسي سؤالٌ عويص لم أر في من حولي من يقدر على الإجابة عليه إجابةً شافية، ولا أظُنُّ أنَّ ديوان الإفتاء نفسه قادرٌ على تقديم إجابةٍ شافيةٍ له، الوحيد الذي أظُنُّ أن الجواب عندهُ هُو حاج الأمين .. مقهقهاً، شرع حاج الأمين في الإجابة على سؤالي، الذي قال لي أنهُ كان يتوقعه: والله يا ولدي ما حصل أدوني عيش أكلت »نُصُّه«، ولا رغيفة واحدة ما كُنَّا بنأكلها، والحكمة الشعبيَّة البتسأل عنها دي :«أدّي العيش لخبَّازُه ولو يأكل نصّه» حكمة قديمة، عِلاَّ معناها ما يا هُو الفاهمنو »ناسك ديل«!! والمسألة، يا أخا العرب، هي أن كثيراً من »الخبَّازين« في زماننا هذا أصبحوا يأخذون الحكمة الشعبية أعلاه، حرفياً وبدقَّةٍ باهرة، «والخبازون الذين أعني ليسوا هُم أصحاب المخابز وحدهم، بل خبازون رفيعو المستويات، رجال أعمال وكبار تجار ومؤسسات ضخمة، وحتّى متحصلي رسوم خدمات رسمية».. والدولة نفسها، يبدو أنها قامت بتضمين الحكمة الشعبية المذكورة في الدستور، فقد أصبحت لا تسألُ أحداً من خبازيها، إذا هُو جاءها بنصف الخُبز الذي طلبتهُ، بل تشكرهُ وتعطيه أجره كاملاً، بل يبدو أن نظرية «أدي العيش لخبازو» أصبحت هي النظرية السائدة في التعاطي الاقتصادي والإنتاجي على مستوى الدولة !! - اجتهادٌ ما، يقف وراء المسألة برُمّتها، اجتهادٌ تسبَّبَ فيه الفشل الإنتاجي الذي هُو ثمرةٌ بدهيّة لوضع الناس في غير أماكنهم.. يبدو أنّ «بقرة الحكومة» لم تعد تُنتج لبناً، بينما تدرُّ بقرة الفلاح من اللبن ما يكفيه ويفيض.. الحكومة تلفّتت يميناً ويساراً، حكَّت رأسها، وسعلت سعلتين، ثم بعثت إلى الفلاح من يأتي به، ثم قالت لهُ بلا تردد: خذ بقرتنا، بقرة الحكومة، واجعلها تدر لبناً، ولك نصفه، بجانب راتبك الشهري!! طبعاً، لن يقول الفلاح »لا« للحكومة، ولن يعاني وخز الضمير، فصاحبة الحق هي التي تطالبه بأخذ نصف الإنتاج.. ولكن بعض أبقار الحكومة لم تدر لبناً حتى وهي في حظيرة الفلاح، فذبحها، وبعث بنصف اللحم إلى الحكومة، وبعضهم اشترى بقرة الحكومة بنصف ثمنها، ثم ذبحها وباع للحكومة اللحم بكامل ثمنه.. المهم، أصبحت الحكومة تبحث، كلما رأت ضعفاً في الإنتاج في مكانٍ ما، عن »خبَّاز« حاذق، يستطيع أن يتولى أمر الموقع ضعيف الانتاج، فيرفعُ إنتاجه إلى حدٍّ مُرضٍ، على أن يأخذ نصفه.. وهكذا، نشأت وظائف »خبازي الحكومة« الذين يعرضون عليها خدماتهم في مختلف المواقع، ولما لم يكن ممكناً تقنين الأمر رسمياً، حتى لا يطالب بقية الخبازين غير الحاذقين بذات النسبة، فيبدو أن الأمر بقي متروكاً لذكاء الخباز، عليه أن «يخارج» نفسه بشكل من الأشكال، إذا ما حشر أحد الأفندية غير ذوي الخبرة بالنظرية الجديدة، آنفه في الأمر .. حاج الأمين قال لي، ملخصاً المسألة: والله هي المسألة ما حرام، ما دام الإتنين متفقين، عِلاّ »المُراجع العام« ده حقُّو يوَرُّوهُ!!