على مدى أربع حلقات مدعومة بعدد كبير من الخرائط كتبنا تحت عنوان «مصر تحتل أرضي».. وها نحن نعود والأزمة قد تعمقت أكثر من ذي قبل، بعد أن اعترف السودان بهذا الإحتلال! وتنازل عن هذه الأرض المحتلة بقبول قيام معبر إشكيد في مكانه الحالي!! في تلك الحلقات شرحنا الأبعاد التاريخية لأزمة الحدود السودانية شمالي وادي حلفا. اتفاقية بطرس غالي «المصري» وكرومر «الانجليزي» أبرمت في يناير 1899م ثم أجريت تعديلات متتالية استمرت حتى 1902م.. وشرحنا تلك الاتفاقية بما يكفي! طبقاً لتلك الاتفاقيات بقي شريط من الأرض سودانية شمال خط عرض 22 شمال. طول هذه القطعة أربعين كيلومتراً شمال المكان القديم لحلفا الحالية، وعرضها حواليَّ أربعة عشر كيلومتراً، مساحتها (4094) فداناً. بقيت تلك الأرض على حالها تلك لأكثر من ست وخمسين سنة، في عام 1958م أشعل المصريون مطالبات كادت أن تؤدي إلى صراعات مسلحة. انسحب المصريون وتركوا الملف كما كان. أي تركت هذه الأرض سودانية كما كانت حتى تجددت المطالبات المصرية عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري، وفي تلك الفترة احتل المصريون كل المناطق المتنازع عليها في حلايب أقصى الشرق وقرى حلفا على الشريط النيلي. منذ عام 1958م ظلت القضية معلقة في مجلس الأمن (تُجدد كل ستة أشهر) والجيش المصري جثم على المكان منذ 1995م، والسودان يقاوم في المحافل مرةً ويغض الطرف أحياناً.. الجديد في المسألة أن الموقف السوداني التاريخي الصلب بدأ في السنة الأخيرة في التراجع. في يوم 27 أغسطس تم افتتاح مِعبراً بري في مكان قرية(إشكيد) القديمة، ويبدو أن هذه الخطوة تمت تنفيذًا لاتفاقيات أمنية سرية لا نعلم حتى الآن بنودها. ولكن الواضح الآن أن المكان الذي شيد فيه معبر «إشكيد» هو تنفيذ حرفي للمطالب المصرية القديمة. أما السودان بقبوله هذه المعبر الدائم يكون قد أقرَّ بخريطةٍ ناضلت ضدها حكومات وطنية منذ الاستقلال، ويكون قد تنازل عن (4094) فداناً وشارع مسفلت طوله يقارب الأربعين كيلو مترًا، حتى قرية «قسطل» الجديدة في مصر. طبقاً لمطالب الحكومات الوطنية السابقة، كان يجب بناء هذا المعبر الحالي «أربعين كيلومترًا تجاه الشمال، وكان يجب أن تكون التسمية «معبر فرص»الحدودي.. اسم آخر قرية سودانية متاخمة للحدود الأصلية. أهمية هذا المعبر بالنسبة إلى مصر ليست تجارية بقدر ما إنها أمنية. وهذا الهاجس يطارد مصر مع كل دول الجوار فهي ليست في وفاق مع أحد من جيرانها. ومعبر (رفح) مشكلة أمنية مع حماس الفلسطينية، وكذلك في «سلوم» مع ليبيا.. و«إشكيد» مع السودان. لهذاهم يتحسبون جيدًا، ويديرون الملف مع السودان بذكاء، بعد النجاح في الحسم العسكري.الآن بعد تسجيل أربعين كيلومترًا باسمهم من الأراضي السودانية،أحكموا وضعهم القانوني بتسميات لها مدلولها الرمزي ، مثل تسمية القاعة المصرية في معبر إشكيد بصالة (قسطل). وقسطل اسم ثاني قرية مصرية كانت شمال الحدود السودانية القديمة بمسافة تقدر بخمسة عشر كيلومترًا بالتقريب .ولو أنهم لم يبيتوا النية لمعركة قادمة لكان الأولى اختيار اسم (أدندان) لصالتهم ،باعتبار أنها أقرب قرية للسودان..!! هذا التلاعب بالأسماء سيربك قاريء الخريطة الذي لا يعرف الكثير عن الوقائع الحقيقية يوماً ما، وقد فعلوا مثل هذا في بداية القرن السابق بوضع اسمين مربكين مثل(فرص وصرص).هذه الخطة في عملية التشويش شرحها السيد حسن دفع الله في كتابه(هجرة النوبيين). *** سألت معتمد وادي حلفا عن حقيقة الاتفاقية:- هل معبر «إشكيد» مؤقت أم دائم؟ صمت برهة وقال في نبرة من كان لا يتوقع مثل هذا السؤال:- الاتفاقية مؤقتة..ّ!! لم إقتنع بكلام السيد المعتمد..! فالاتفاقيات الأمنية أو التنازلات التي يقدمها الرئيس ونائبه أو من يرسلونهم أمثال:- «مصطفى عثمان»، «علي السيد» المعتمد أن ينفذها ولا يحق له أن يسأل عن التفاصيل طبقاً للقاعدة الأمنية(الحاجة على قدرالمعرفة)!! إذن المعتمد ليس في يده شيء والشعب النوبي الذي يعرف المكان ،غائب مغيب، وغير مكترث لمصلحة خاصة أووطنية، ومنهم من يقول صراحة إنه لا يهمه إلا مصالحه الآنية ولا يهمه سيادة ولا أرض، تماماً كالنساء والأطفال الذين كانوا يهتفون للوزير المصري الذي كان يخاطبهم. وأنا أتفرس في الوجوه وهم يهتفون ، تذكرت الشاعر المصري أحمد شوقي الذي وصف فقراء مصر الذين كانوا يهتفون للباشوات في الانتخابات العامة..(كالبهم تأنس أن ترى التدليلا) .. في هتافاتهم انساقوا مع غيبوبة التخدير(عاشت وجوه وادي النيل .. عاش كفاح الشعب النوبي).. محتوى الهتافات كان مضحكاً:- أين هذه الوحدة التي يحكون عنها..؟ وهل هذا العمل كان كفاحاً نوبياً..؟ وهل أصلاً في مصلحته على المدى البعيد؟؟!ّ *** أما الحكومة التي يمثلها السيد المعتمد فقد تنازلت بالفعل عن هذه القرى الثمان، والشريط من الأرض مستغلة جهل الشعب السوداني بتفاصيل الأزمة. وتهاون النوبيين.. وغياب الوعي القانوني للمسؤولين في دنقلا!! وغياب المسؤولية الوطنية للجميع!!! هذا الحضور المصري الكثيف بوزيرين ومحافظ أسوان كان دليلاً صارخاً على الصيد السوداني،وقد كان ثميناً بل وثميناً جدًا. بهذا المعبر انتهوا من الشق النيلي «لملف حلايب» ولولا يقظة الهدندوة في الشرق لتنازلوا أيضاً عن حلايب. لهذا كان طبيعياً أن يشكر الوزير المصري الجيش المصري. لأن الأمر في نظرهم كان نصرًا عسكرياً، وليس اتفاقية تجارية. عندما قاد السيد مصطفى عثمان إسماعيل وفدًا لإبرام اتفاقية أمنية إلى القاهرة..! لم نسأل عن علاقة وزير الاستثمار بالاتفاقية الأمنية، ولا أحد يسأل بالطبع عن (التخصص) في عهد (الإنقاذ).. ولكن عبرَّنا عن تخوفنا بأن هذا الوزير هو «عراب التنازل» للمصريين..! وعندما يكون التنازل للمصريين يكون دائماً على حساب النوبيين..! وفوق هذا وذاك مصطفى عثمان الرجل المناسب في هذا الأمر..! معلوم إنه «عروبي متعصب».. لديه ما لديه من صراع مع النوبيين!! وهذا ما حدث بالفعل وعندما استعان بالملحق العسكري للسفارة في المفاوضات..! أدركنا أنه في الأصل سافر إلى مصر دون أي خطة ، والخطة الوحيدة كانت لإرضاء «السيسي» ويا ليتهم كانوا قد تنازلوا لحليفهم «محمد مرسي».. كنا سنحترم «الانطباح» السوداني..! باعتبار أنهم أكرموا حليفهم ! قبل أيام معدودة كان هذا الوزير يبكي عندما هرب المستثمرون من السودان!! ولكن هل التنازل عن السِّيادة يجلب الاستثمار؟ هكذا عالج السودان هذه القضية بطريقة رديئة كرداءة السرداب الذي إنهار على رأس الحضور في الاحتفال. قدم أراضينا وقرانا قرابيناً لإرضاء السيسي الذي أرهب كل الجوار:- ضرب ليبيا بالطائرات في الغرب، وخنق غزة بمعبر «رفح» في الشرق، وها هو السودان يقدم ما لديه على حساب الأجيال.. الأزمة الكبرى- باعت الانقاذ كل شيء والأخطر على الإطلاق هي الأرض.. ولا نقصد ميادين الكورة بين أحياء الخرطوم، بل أراضي سودانية في الحدود من «أبيي في الجنوب إلى حلفا في الشمال». .. نواصل..