الناظر لمسيرة والي شمال كردفان مولانا أحمد هارون الشاقة طوال مسيرة الإنقاذ، على الأقل في محطتي وزارة الداخلية في منصب وزير الدولة وبجنوب كردفان والياً على ولاية التلال يقول علانية ودون مواربة إن أذن الرجل لا تعشق إلا سماع صوت الدانات ورصاصات الكلاشنكوف حتى أن البعض كاد يجزم أن الرجل جالب للمتاعب وكادت تلك المسألة تترسخ في أذهان الكثيرين عندما وصل لعروس الرمال والياً لشمال كردفان في يوليو العام الماضي، وفجأة كادت الولاية الآمنة تدخل في أزمة عقب وصول قوات الدعم السريع ولكن بعد قليل من شعار «أرمِ قدام ورا مؤمن» وشعار الجيش «أكسح وأمسح» الذي رفعه وزير الدفاع في جنوب كردفان، تبدلت لغة هارون وبشكل مفاجيء وأصبح عندما يهتف بكلمات «موية، طريق، مستشفى»، تردد وراءه شمال كردفان: «والنهضة خيار الشعب». كان الهتاف مدوياً وهارون وقتها يقف على مسرح منصوب في ميدان الحرية بوسط مدينة الأبيض، ويهتف ذلك الهتاف والآلاف يرددون وراءه أن النهضة خيارهم.. الجميع كان في تلك اللحظة - الجمعة الفائتة - منتشياً، ففي شهر أكتوبر الحالي الذي يذكر بالثورة المجيدة التي سبقت الثورات العربية بعشرات السنين وتحديداً في 1964، أشتعلت ثورة جديدة يعرفها أهل كردفان دون غيرهم. كرمت شمال كردفان ابن السودان، الشاعر السفير د. محمد المكي إبراهيم، الذي يعد من جيل الرواد الثقافيين في الأدب وله عدة دواوين شعرية مختلفة وبعض الكتب الثقافية وصاحب أجمل الأغنيات التي رددها عمالقة الفن السوداني، ويعد ود المكي أبرز من تناول مسألة الهوية الثقافية السودانية وهو سفير عمل بعدد من المحطات الخارجية بأفريقيا وهاجر إلى أمريكا في بداية التسعينيات وعمل أستاذاً بجامعة كاليفورنيا وبعد غياب دام ثلاثة عشر عاماً بالغرب الأمريكي، عاد للبلاد واحتفى به هارون في تكريم لم يكن خاصاً به، فهو تكريم للثقافة والفن ولكردفان التي خرجت تستقبل ابن الأبيض حي القبة ود المكي. وللمفارقة أن الرجل عندما كتب «الملحمة» التي غرست الوطنية في أجيال ما بعد الاستقلال وشكلت الوجدان السوداني وفيها يقول ود المكي «باسمك الشعب انتصر.. حائط السجن انكسر».. وفيها أيضاً «كانت أكتوبر في أمتنا منذ الأزل».. كرمت شمال كردفان ود المكي في أكتوبر، وهي تشهد ثورة تنموية، حملت سمات أكتوبر من جهة العزيمة والإرادة والهمة، ثورة شهدت خروج مواطن كردفان للشارع ليس غاضباً على الحكومة، بل مؤازراً لها وهي ثورة إحياء أمل في ولاية خرجت الآن من تحت الركام وتناست جراحاتها وآلامها وعلقت الدم لتهتف مع الوالي «موية، طريق، مستشفى.. والنهضة خيار الشعب».. فالكل ارتضى وبحماس منقطع النظير أن يقتطع من قوته لأجل نفير نهضة الولاية.. الذي لم يكن من أجل المباني التي تطاولت الآن في المسجد العتيق الذي سيسع آلاف بدلاً عن مئات.. ومستشفى تحت التشييد، ومشروع المدينة الطبية ومياه بدأت في التحسن.. إذ أن الأبيض كادت توصم بولاية العطش وكذا حال التنمية فطريق الأبيض، حمرة الشيخ بارا ذاك الحلم الذي طال انتظاره بجانب طرق داخلية. وبعد أن بدا الاطمئنان على الوالي هارون وحكومته بشأن إنفاذ «المباني» كان الاتجاه نحو ثورة «المعاني».. فكان تكريم شاعرنا ود المكي الذي شهده الآلاف من مواطني الولاية وتسابقت كل المؤسسات لتشارك في التكريم أسوة بتسابقها للمشاركة في تكريم حكومة الولاية بالتفاعل مع مشروعاتها والإسهام فيها والتطبيق الكامل لنظرية جنيه من الولاية تقابله أربعة جنيهات من المركز في إطار ثورة النفير التي استلهمها الوالي هارون من «ود المكي» وهذا ما لا يعرفه الكثيرون.. فالشاعر الكبير صاحب الروائع ومنها قصيدة «قطار الغرب» التي روى فيها رحلة له بالقطار قال فيها: الناس هنا جنس آخر، فقراء وثرثارون ولهجتهم في لين القطن والباعة ملحاحون وحلافون ولهم آذان تسمع رنة قرش في المريخ هذا نوع في كل نواحي القطر تراه. ومن تلك الكلمات بدأ نفير كردفان بجنيه وهو ذات القرش الذي تحدث عنه ود المكي.. وقد حفز تكريمه خريجي مدرسة خور طقت من أبناء دفعته «السابعة» والذين رافقوه إلى الأبيض وعلى رأسهم السفيران اللواء أمن عثمان السيد ود. حسن عابدين وكذلك السفير د. خالد فرح «الذي يصغرهم سناً بكثير».. إذ أعلنوا عن دعمهم لنفير كردفان تحت شعار «دفرة لدعم النهضة».. ولكن من أكبر مخرجات التكريم هو الإعلان عن مشفى ثقافي ولعله يكون رداً على من يحاول الانتقاص من الاحتفائية، إذ أعلن هارون عن قيام مركز ضخم معني بالثقافة والآداب والفنون يحمل اسم ود المكي، ومثل ذلك التعهد غرس جديد وعميق في نفوس أهل كردفان وجدد الثقة في الحكومة باهتمامها بالثقافة والفن كما قال الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة والآداب بحكومة شمال كردفان الوزير خالد الشيخ الذي كان الذراع الأيمن لهارون في إنجاح التكريم. احتفت شمال كردفان بود المكي لثلاث ليالٍ شارك الفنان الدكتور عبد القادر سالم وعقد الجلاد وآخرون في إحيائها، قدم فيها ود المكي قراءات شعرية بصالون الأديب الراحل الفاتح النور مما أضاف بعداً للتكريم ومثل عيداً بجانب عيد الأضحى، ولعل الأفراح أبت أن تغادر كردفان عندما أعلن المذيع الرائع عبد الله محمد الحسن عن قسوة هلال الأبيض على السوكرتا والفوز عليه بثلاثية في عقر داره ببورتسودان، وهو الأمر الذي لم يفوته هارون وقال في كلمته عند تكريم ود المكي إن العيد أعياد في الولاية باستقبال الأضحى المبارك، وود المكي وتكريمه والخريف الجميل وفوز الهلال فرفع إبهامه وقال بتلك اللغة الشبابية «شمال كردفان كده».