طبيعة هذه الحياة أنها نسيج من الابتلاءات.. ونقصان المراد لأنها (حياة الدنيا) ودنيا في اللغة هي الأقل وقد لخص شيخ المكي قائلا: كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟ سؤال حائر يا شيخنا وطبعت على أن تشوب مسراتها كدورات قال الحق سبحانه: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). والقرآن يوجه نظرنا إلى أن كل هذه الابتلاءات هي خير في وجه من الوجوه، أنظر إلى هذه الآيات وهذه تشير إلى تقلبات الحركة الحضارية وحراك مراكز القوة (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير). ومعلوم أن التمكين لك في الملك ونزعه منك فعلان متغايران متضادين.. في معاييرنا نحن أنباء البشر.. فيوم التعيين لا يشبه يوم الإقالة، ولكن الحق سبحانه اطلق عليهما بأنهما خير في معيار الحق. ولتقريب هذا المعنى يمكننا أن نتذكر التيار الكهربائي الذي نعايشه يومياً.. فهو بمعادلة رياضية معينة يعطينا قوة حرارية ضخمة (فرن كهربائي) يصهر الحديد وبمعادلة، أخرى يعطينا برودة تجمد المياه (ديب فريزر) وهو نفس التيار.. فسبحان القدير. كان لابد من هذه التوطئة ونحن ندندن حول الاستفتاء القادم وخيار الوحدة والانفصال.. وهو ابتلاء كبير. والازمات تمر بالإنسان شعوباً وأفراداً لأن هذه طبيعة الحياة كما أسلفنا. تنشأ دول وتزدهر حضارات ثم تدول عليها الأقدار.. فتتدحرج وتنهار.. ثم تقوم على أثرها حضارات أخرى. ويبدو لي أن إرادة الحياة هي الأقوى ما دام الله لم يأذن أن تنطوي أو تتلاشى. حضارات ومدنيات كثيرة ملأت الحياة والساحة ثم أنزوت كما قال الأخر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفاء أنيس ولم يسمر بمكة سامر. ولكن الكون مستمر.. تشرق الشمس ثم تغيب في وقتها المحدد، والأفلاك مستمرة في دورانها.. والفضاء ملئ.. والرياح تجرى عاتية حيناً ورخاء حيناً آخر (الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته) كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.. ذلك سر عظيم أودعه الله في هذا الكون. والله خلقنا وأنزلنا إلى هذه الأرض لنعمرها.. ونتفاءل مع جزئياتها.. لا نلقي السلام أو ننهزم ما دامت فينا بقية حياة، ولذلك أمرنا بالصبر.. والرضا.. والتوكل.. وهو مثلث ذهبي ووصفة تعينك على أن تؤدي دورك إلى آخر ساعة في حياتك.. هذا المثلث يمنحنا القوة على أن نحلق فوق مآسينا.. ومصائبنا نتجاوزها في مثل لمح البصر.. لئلا تعطل طاقاتنا (لكي لا تأسوا على ما فآتكم ولا تفرحوا بما أتاكم) ونبدأ بأن (نقلب الصفحة). والاستفتاء قادم علينا ليختار أخوتنا في الجنوب الوحدة أو الانفصال ولا يريد عاقل بأن تفرض الوحدة عليهم، فإنه لا يستقيم حكم بالقوة ولكننا نأمل أن يكون استفتاءً صادقاً شفافاً يعبر عن حقيقة الشعب الجنوبي استفتاء نصنعه نحن ولا يفصله لنا آخرون.. نريده (عملة سودانية).. ولو تركنا لحالنا كسودانيين لما اخترنا غيرالوحدة لأن السودانيين من أكثر الشعوب الذين أجادوا فن التعايش حتى صار (اختراعاً سودانياً). عبر قرون من الزمان تعايش السودانيون وتخالطوا وتزاوجوا بكافة أعراقهم ونحلهم وسحناتهم حتى كونوا ظاهرة الجمع بين (الغابة والصحراء) في نسيج متفرد.. فكانت دولة (سنار) أكبر مثل لذلك. أخي القارئ : خطابي للشمال والجنوب أن نتفاءل على كل حال ولو حدث الانفصال فيجب ألا يعني لنا نهاية الدنيا، ونهاية المطاف، وقفل باب المحاولات للوحدة، أو التنسيق على الأقل.. فتاريخ الشعوب ملئ بمواقف المراجعات وإعادة الترتيب. لا ندري ربما يكون (المنع هو عين العطاء) كما يشير شيخنا ابن عطاء الله في حكمه.. أو كما يتساءل شيخنا الشاعر المجذوب: أيكون الخير في الشر إنطوى؟ والقوى خرجت من ذرةٍ هي حبلى بالعدم. بل ربما كان الانفصال- لو حدث- فرصة لوقفة مع النفس ومراجعة مسيرتنا.. ونقدها وتقويمها وسد الثغرات وممارسة أدب المكاشفة وهو أدب هام للغاية في حياة السائرين إلى الله. ونكون بذلك قد قلبنا المحنة إلى منحة، وادركنا كيف يطوى الخير في البشر، وحلقنا في ماساتنا فتزداد قوة من الله وتزكية لأنفسنا. مهما يكن إخوتي دعونا نتفاءل ونحسن الظن بربنا تعالى ونجدد يقيننا بأن الله لا يريد بعبادة إلا خيراً في كل ما يجري عليهم من أحكامه وتصاريفه، وهو لطيف بعباده- مطلق عباده. دعونا نمضي في غرس مسائل الوحدة لآخر يوم في حياتنا، ولآخر لحظة للاستفتاء نتأسى بهدى سيد الأولين والأخرين وسيد أهل الرجاء في الله: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليفعل). والتوكل وحسن الرجاء هو شأن الأقوياء يبنون الحياة ولا يستسلمون لدواعي اليأس والانهزام. ولينصرن الله من ينصره.