ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصوف الإسلامي: جسر حضاري وإنساني بين الشرق والغرب .. عثمان الطاهر المجمر
نشر في سودانيل يوم 17 - 06 - 2011


المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس
*** *** ***
قسم العقيدة والفلسفة.
بحث مقدم لنيل درجة الماجستير في العلوم الإسلامية:
عنوان البحث:
التصوف الإسلامي
جسر حضاري وإنساني بين الشرق والغرب
الطالب: عثمان الطاهر المجمر
المشرف الأستاذ الدكتور: عبد الرازق قسوم
السنة الجامعية :2009 /2010 _1432 ه
الفصل الخامس:
الطرق الصوفية
الطريق لغة: هي السيرة، وطريقة الرجل: مذهبه، يقال: هو على طريقة حسنة وطريقة سيئة.
واصطلاحا: اسم لمنهج أحد العارفين في التزكية والتربية والأذكار والأوراد أخذ بها نفسه حتى وصل إلى معرفة الله، فينسب هذا المنهج إليه ويعرف باسمه، فيقال الطريقة الشاذلية والقادرية والرفاعية نسبة لرجالاتها. واسم الطريقة مقتبس من القرآن: (وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً).
و تختلف الطرق التي يتبعها مشايخ الطرق في تربية طلابها ومريديها باختلاف مشاربهم أي أذواقهم الروحية واختلاف البيئة الاجتماعية التي يظهرون فيها. فقد يسلك بعض المشايخ طريق الشدة في تربية المريدين فيأخذونهم بالرياضات العنيفة ومنها كثرة الصيام والسهر وكثرة الخلوة والاعتزال عن الناس وكثرة الذكر والفكر.وقد يسلك بعض المشايخ طريقة اللين في تربية المريدين فيأمرونهم بممارسة شيء من الصيام وقيام مقدار من الليل وكثرة الذكر، ولكن لا يلزمونهم بالخلوة والابتعاد عن الناس إلا قليلا. ومن المشايخ من يتخذ طريقة وسطى بين الشدة واللين في تربية المريدين.وكل هذه الأساليب لا تخرج عن كتاب الله وسنة رسوله، كما يقولون، بل هي من باب الاجتهاد المفتوح للأمة. ولذلك قيل: لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق.
وللطرق الصوفية شارات وبيارق وألوان يتميزون بها: فيتميز السادة الرفاعية باللون الأسود. ويتميز السادة القادرية باللون الأخضر. ويتميز السادة الأحمدية باللون الأحمر. أما السادة البرهانية فإنها لا تتميز بلون واحد كسائر الطرق بل تتميز بثلاث ألوان: الأبيض الذي تميز به السيد إبراهيم الدسوقي، والأصفر الذي تميز به الإمام أبو الحسن الشاذلي ومنحه لابن أخته السيد إبراهيم الدسوقى، والأخضر وهو كناية عن شرف الانتساب لأهل بيت رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ومن أهم الطرق الصوفية المنتشرة في العالم الإسلامي:
الطريقة المولوية نسبة إلي جلال الدين الرومي المتوفي 672هجرية وقد كانت أدني الطرق جميعها إلي العقل، وأكثرها ميلا إلي التسامح وأبعدها عن المبالغ والشطط وتمتاز بالرقص الدوار. وأدناه جدولا يبين بعض الطرق الصوفية.
أماكن الانتشار تاريخ الوفاة نسبتها اسم الطريقة
العراق ومصر وشرق أفريقيا
561ه الشيخ عبد القادر الجيلاني
الطريقة القادرية
بلاد الشام
575ه الشيخ سعد الدين الجباوي الطريقة السعدية
العراق ومصر وغرب آسيا
578ه الشيخ أحمد بن علي الرفاعي
الطريقة الرفاعية
مصر
627ه الشيخ أحمد البدوي
الطريقة الأحمدية أو البدوية
مصر
638ه الشيخ محيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر الطريقة الأكبرية
اليمن وأندونيسيا وشرق آسيا والحجاز
653ه الشيخ محمد بن علي باعلوي
طريقة السادة آل باعلوي
مصر والمغرب العربي واليمن وسوريا والأردن
656ه الشيخ أبي الحسن الشاذلي
الطريقة الشاذلية
مصر
676ه الشيخ إبراهيم الدسوقي
الطريقة البرهانية الدسوقية
آسيا الوسطى وسوريا
791ه الشيخ محمد بهاء الدين شاه نقشبند الطريقة النقشبندية
المغرب
933ه الشيخ محمد بن عيسى الطريقة العيساوية
ليبيا
981ه الشيخ عبد السلام الأسمر
الطريقة العروسية
مصر وتركيا وفلسطين والأردن
986ه الشيخ محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي الطريقة الخلوتية
السودان
1189ه الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان الطريقة السمانية
المغرب والسنغال وغرب أفريقيا
1230ه الشيخ أبو العباس أحمد التيجاني
الطريقة التيجانية
السودان والصومال
1253ه الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي
الطريقة الإدريسية
تركيا وحلب
1272ه الشيخ جلال الدين الرومي
الطريقة المولوية
السودان وأريتريا وأثيوبيا
1267ه الشيخ محمد عثمان الميرغني الختم
الطريقة الختمية
ليبيا وشمالي أفريقيا والسودان والصومال
1276ه الشيخ محمد بن علي السنوسي
الطريقة السنوسية
العراق
1317ه الشيخ عبد الكريم شاه الكسنزان الطريقة الكسنزانية
الجزائر
1353ه الشيخ أحمد مصطفى العلاوي
الطريقة العلاوية
المغرب والسنغال وغرب أفريقيا
1399ه الشيخ صالح الجعفري الحسيني إمام الأزهر
الطريقة الجعفرية
المغرب
سيدي علي بن محمد الملقب بسيدي علي بودشيش الطريقة القادرية البودشيشية
باكستان وروسيا والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وإندونيسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا
1399ه قلندر بابا أولياء السلسلة العظيمية
الباب الثالث: الدور الاجتماعي للتصوف
الفصل الأول: دور التربية في التصوف
جاء في باب ذكر الصوفية وطبقاتهم، وما توسموا به من العلم والعمل، وما خصوا به من الفضائل وحسن الشمائل، نقلاً عن مرجع اللّمع لأبي نصر السراج الطوسي ، الآتي نصه:
قال الشيخ أبو نصر رحمه الله: ثم إن طبقات الصوفية أيضاً اتفقوا مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم، وقبلوا علومهم، ولم يخالفوهم في معانيهم ورسومهم، إذا كان ذلك مجانباً للبدع وإتباع الهوى، ومنوطاً بالأسوة والاقتداء، وشاركوهم بالقبول والموافقة في جميع علومهم.
ومن لم يبلغ من الصوفية مراتب الفقهاء وأصحاب الحديث في الدراية والفهم، ولم يحط بما أحاطوا به علماً، فإنهم راجعون إليهم في الوقت الذي يُشكل عليهم حكم من أحكام الشريعة، أو حد من حدود الدين، فإذا اجتمعوا فهم في جملتهم فيما اجتمعوا عليه، فإذا اختلفوا فاستحباب الصوفية في مذهبهم الأخذ بالأحسن والأولى والأتم، احتياطاً للدين، وتعظيماً لما أمر الله به عباده، واجتناباً لما نهاهم الله عنه.
وليس من مذهبهم النزول على الرُّخص، وطلب التأويلات [والميل إلى] الترفَّه، والسَّعات، وركوب الشبهات، لأن كل ذلك تهاون بالدين، وتخلف عن الاحتياط، وإنما مذهبهم التمسك بالأولى والأتم في أمر الدين، فهذا الذي عرفنا من مذاهب الصوفية ورسومهم في استعمال العلوم الظاهرة المبذولة المتداولة بين طبقات الفقهاء وأصحاب الحديث. ثم إنهم من بعد ذلك ارتقوا إلى درجات عالية، وتعلقوا بأحوال شريفة، ومنازل رفيعة من أنواع العبادات، وحقائق الطاعات، والأخلاق الجميلة، ولهم في معاني ذلك تخصيص لغيرهم من العلماء والفقهاء، وأصحاب الحديث، وشرح ذلك يطول، غير أني أبين لك من كل شيء طرفاً حتى تستدل بما أذكره على ما لا أذكره إن شاء الله.
من باب ذكر تخصيص الصوفية بالمعاني التي قد ترسموا بها من الآداب والأحوال، والعلوم التي تفرُّدوا بها من جملة العلماء نفس المرجع الذي سبق ذكره وسبقت الإشارة إليه: قال الشيخ أبو نصر رحمه الله: فأول شيء من التخصصات للصوفية، وما تفردوا بها عن جملة هؤلاء الذين ذكرتهم من بعد أداء الفرائض، واجتناب المحارم: ترك ما لا يعينهم، وترك كل علاقة تحول بينهم وبين مطلوبهم ومقصودهم، إذ ليس لهم مطلوب ولا مقصود غير الله تبارك وتعالى، ثم لهم آداب وأحوال شتى، فمن ذلك:
القناعة بقليل الدنيا عن كثيرها، والاكتفاء بالقوت الذي لا بُدّ منه، والاختصار على ما لا بُدّ منه من مهنة الدنيا: من الملبوس، والمفروش، والمأكول وغير ذلك، واختيار الفقر على الغنى اختياراً، ومعانقة القلة، ومجانبة الكثرة، وإيثار الجوع على الشبع، والقليل من الكثير، وترك العلوِّ والترفع، وبذل الجاه، والشفقة على الخلق، والتواضع للصغير والكبير، والإيثار في وقت الحاجة إليه، وأن لا يبالي من أكل الدنيا، لا يبالي بمن يستمتع بها من المترفين، أو يجري وراءها من أصحاب الثراء، أي لا يغبطه ولا يحسده، ولا ينظر إليه نظرة تقدير، وحسن الظن بالله أي ومن آدابهم حسن الظن بالله، والإخلاص في المسابقة إلى الطاعات، والمسارعة إلى جميع الخيرات، والتوجه إلى الله تعالى، والانقطاع إليه، والعكوف على بلائه، والرضا عن قضائه، والصبر على دوام المجاهدة، ومخالفة الهوى، ومجانبة حظوظ النفس، والمخالفة لها؛ إذ وصفها الله تعالى بأنها أمارة بالسوء، والنظر إليها بأنها أعدى عدوك التي بين جنبيك كما روي عن رسول الله.
ثم إن من آدابهم وشمائلهم أيضاً مراعاة الأسرار، ومراقبة الملك الجبار، ومداومة المحافظة على القلوب بنفي الخواطر المذمومة، ومساكنة الأفكار الشاغلة التي لا يعلمها غير الله عز وجل، حتى يعبدوا الله تعالى بقلوب حاضرة، وهموم جامعة، ونيات صادقة، وقصود خالصة؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من عباده من أعمالهم إلا ما كان لوجهه خالصاً، قال الله عز وجل: أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ الآية (3) من سورة الزمر.
وقد علمهم الله كيف يفعل الدواء، فبدأوا بشفاء قلوبهم، وأمرهم حينذاك أن يواسوا قلوب المحزونين والذين يتألمون.
فالتصوف ليس إذن مجرد أسماء تسرد، أو وصفات صيدلية، بل هو علاج بدأ الطبيب المعالج فجرّبه على نفسه ابتغاء أن يفيد به الآخرين، والتصوف كما يقول "أبو الحسين" النوري ليس نصوصاً، وعلوماً نظرية، بل أخلاق، أي أنه قاعدة للحياة، وكما يقول الجنيد: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات" .
ومن هنا أتت الأهمية الاجتماعية للتصوف الإسلامي: إنها جاءت من قيمته الطبية النفسية المفترضة. فهل استطاع شيوخه – حسبما زعموا – أن يستقوا من حياتهم البطانة الوسائل لعلاج آلام القلوب، وتضميد جراح الجماعة، وقد مزقتها رذائل أعضائها غير الصالحين؟
الوسيلة الوحيدة الميسورة لنا للفحص عن الحقيقة التي استهدفتها تجارب الصوفية المسلمين هي النظرة في نتائجها الاجتماعية: أعني قيمتها، وأثر طريقتهم في الحياة بالنسبة إلى علاج الهيئة الاجتماعية دون أن ندع حديثنا يستغرق في السبحات المفاجئة الغريبة التي تنطلق من هذه العقول في حالات الوجد المجرّد التي يفخر البعض إبان وحدتهم فيها بأن ينسوا في الله أنهم ليسوا بحاجة إلى رحمة الناس.
وقوة التصوف الإسلامي الدائمة ليست في الانعزال المترفّع المحزون الذي فيه يصبح المجذوب ، بل هي في الشوق الخارق إلى التضحية في سبيل إخوانه في الوجد العالي للاستشهاد الذي تغنّى به الحلاج حين قال: فالصوفي يخدم نفسه كما يخدم الآخرين: يكتشف عيوب نفسه ليعالجها في نفسه وفي الغير.
والحديث عن دور التربية يقودنا للتطرق للدور الاجتماعي للتصوف الإسلامي.
فقد جاء في تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني ما نصه :
وهذا الجانب العملي يقودنا إلى الحديث عن الدور الاجتماعي للتصوف الإسلامي، وهو دور قد أبرزه ماسينيون في مقدمة كتابه "بحث في نشأة المصطلح الفني للتصوف الإسلامي"Massignon Essai Sur les origins du lexique technique de la mystique musulmane فقال: إن منهج الاستبطان الذي يقوم عليه، وبه أحيا الإسلام وعلومه على حد تعبير الغزالي، يحيل الصوفية إلى أطباء نفسانيين يعملون على شفاء بلايا الآخرين. ذلك لأن الصوفية، كما يقول المحاسبي في كتابه "المحبة" قد رنوا بأبصارهم بفضل ضياء الحكمة الإلهية إلى المناطق التي تنمو فيها الأدوية.
ويرتفع بمستوى حياة الروحية، ليجعل منها نموذجاً يحتذيه ليس فقط أصحابه في الطريقة، بل وسائر الأمة، ويستهلك نفسه في الحب الإلهي ليستطيع الشفاعة للآخرين عند مولى الشفاعة، ويُسْتَشهد ابتغاء أن يكون شاهداً على الحقن وما أروع ما قال الحلاج، وهو مصلوب على الجزع لما سئل: "ما حد التصوف؟" فقال: "ما ترون!" أي الاستشهاد في سبيل الحق. ابن الجوزي: "مرأة الزمان" ، ومن هنا رأينا الحلاج في يوم الوقوف بعرفات حين يتوجه كل حاج بالدعاء إلى الله ليغفر ذنوب أهله وأقاربه – يدعو هو للأمة الإسلامية جمعاء.
الفصل الثاني: دور الصوفية في نشر الدعوة الإسلامية
وللصوفية، وبخاصة الطرق الصوفية المنتظمة، دور هائل في نشر الدعوة الإسلامية في خارج دار الإسلام. ونأخذ مثالاً على ذلك ما حدث في الهند، فكما قال ماسينيون بحق :
"إن الإسلام لم ينتشر في الهند بواسطة الحروب، بل انتشر بفضل الصوفية، والطرق الكبرى، وهي الجشتيه، والكُبرَويه، الشّطارية، والنقشبندية" ذلك لأن "التوفيق الاجتماعي بين الظافرين والمقهورين، لا يتم إلا بواسطة أولئك الذين يعطون ولا يطالبون، ويُقْرِضون ولا يأملون في شيء".
وقد كان للتصوف الإسلامي في الهند الفضل في المصالحة بين الطوائف، كما يتجلى ذلك في تصوف باباكبور (المتوفى سنة 924ه/1539م) في كتابه الذي يقدسه السيكة (السّيخ) فمزجوا بين تصوف كبير الإسلامي، وبين الهندوكية، وأدمج مؤسس مذهبهم نانك (المتوفى سنة 946ه/1539م) في كتابه الذي يقدسه السيكة: "ادي جرنته" "ADI Granth" – قصائد صوفي مسلم هو فريد شكر كَنجي.
وانتشار الإسلام في إفريقيا السوداء جنوبي الصحراء: السنغال، ومالي، والنيجر، وغينيا، وغانا، ونيجريا، وتشاد – إنما يرجع الشطر الأكبر من الفضل فيه إلى الطرق الصوفية، خصوصاً التيجانية، والسنوسية، والشاذلية، فكانت الزوايا والرباطات التي أسسها شيوخ هذه الطرق الصوفية منطلقا لنشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب الوثنية في غربي القارة الإفريقية وقلبها.
ومرد هذا خصوصاً إلى اختلاط الصوفية بالطبقات الشعبية في هذه البلاد، وعيشهم بين العامة والفقراء، مما أبدى لهؤلاء نماذج حية تتصف بالتقوى والصلاح، إلى جانب ما تقوم به هذه الطرق من خدمات اجتماعية، وألوان من البر، والإحسان، والمواساة، والإخاء.
"إن النموذج المقنع الذي تَبدّى عنه الصوفية المسلمون، وشيوخ الجشتية، والشطارية، والنقشبندية، وقد تعلموا اللغة الشعبية، واختلطوا بحياة عامة الناس، نقول: إن هذا النموذج هو الذي جعل العديد من الهندوكيين، والملاويين (سكان الملايو) يعتنقون الإسلام، وليس التعصب المستبدّ (للغزاة المسلمين) الذين كانوا يتكلمون لغة أخرى أجنبية" .
ويتصل بهذا أيضاً دور الصوفية في الجهاد بالمرابطة في الثغور الإسلامية لحمايتها ضد المعتدين على حدود دار الإسلام.
والتصوف الإسلامي نشأ، وتطور، واستمر إلى عهد قريب مجاهداً مرابطاً.
والرباطات، وهي قلاع حربية حصينة، كانت في أصلها وتطورها خانقاهات للصوفية المرابطين فيها للجهاد ضد أعداء الإسلام والمسلمين. فعبادان كانت في الأصل أول رباط تجمع فيه "متطوعة" البصرة للدفاع عن هذا الثغر الإسلامي، وفيه رابط عدد كبير من كبار مشايخ الصوفية، مثل مقاتل بن سليمان (المتوفى سنة 158ه) . وحماد بن سلمة المتوفى سنة 167ه ، وبشر الحافي . ورباط المنستير في تونس (القرن الثاني الهجري)، ورباط الفتح (عاصمة دولة المغرب حالياً)، ومئات غيرها كانت حصوناً حربية وحانقاهات صوفية في وقتٍ واحدٍ معاً. كذلك الزوايا في المغرب اتخذت نفس معنى الرباط، وكثير من الرباطات بشيوخ صوفية كبار، فرباط العباد بالقرب من تلمسان في الجزائر كان حول قبر سيدي أبي مَدْين، ورباط تافرطست على حدود وادي سبو في المغرب يحتوي على مسجد، وقبر لأميرين من بني مرين، ورباط تسكيدلت في جنوب غربي وهران يضم قبر أحد الأولياء من بني أنناسن .
الفصل الثالث: المسلمون في الغرب قنطرة للتواصل بين الشرق والغرب:
كتب الدكتور عبد المجيد النجار تحت عنوان: "المسلمون في أوروبا: الشراكة الحضارية مدخلات للاندماج"، والاندماج في حد ذاته يُعدّ تواصلاً بين الشرق والغرب.
يقول: "أصبح الوجود الإسلامي بأوروبا منذ بعض العقود يتطوّر تطوّراً سريعاً في كمه وكيفه، فقد ناهز عدد المسلمين في هذه البلاد، شرقيّها وغربيّها، الستين مليوناً بين مسلمين من أصل أوروبي، ومسلمين وافدين من البلاد الإسلامية، ومسلمين أوروبيين جدد، وبعدما كان هدف هذا الوجود كما يرسمه المهاجرون لنفسهم، وهم العدد الأكبر، هو أن يستفيدوا من البلاد التي يقيمون فيها استفادة ظرفية عابرة تعود بهم إلى بلادهم الأصلية، أصبح الكثير منهم إن لم يكن الأكثر يخططون لوجود مستقرّ دائم يكونون فيه، ويكون أبناؤهم من بعدهم، مواطنين مثل سائر المواطنين في البلاد الأوروبية، وهو ما يقتضي الانخراط في المجتمع، والاندماج فيه، والمشاركة في جميع فعالياته بصفة طبيعية، وقد بدأت الحياة الإسلامية العامة تتجه هذه الوجهة يرسّخها في النفوس وينميها استمراء الحياة الأوروبية المريحة من الناحية المادية في أغلب الأحوال بالنسبة للآفاق الاقتصادية والسياسية المسدودة في البلاد التي وقعت منها الهجرة".أه
وقد كان كما قال، فحينما بدأ هذا الهدف الجديد يراود النفوس ويأخذ طريقه إلى الواقع منذ ما يقارب العقدين من الزمن، بدأت النخبة الإسلامية في أوروبا المهتمّة بوضع الوجود الإسلامي فيها تشعر بأنه هدف يختلف اختلافاً نوعياً عمّا كان، ويفتح آفاقاً واسعة للمسلمين والإسلام بصفة خاصة، ليكون في مصلحة المجتمع الأوروبي بصفة عامة، وبدأت تقدّر أن ذلك يستلزم من وسائل التنفيذ وطرقه ما لم يكن معهوداً حينما كان الهدف هو الوجود الظرفي المعارض، ومن أبرز ما نتج عن ذلك التقدير الاقتناع بأن هدف توطين المسلمين واندماجهم في المجتمع لم تعد قادرة عليه الجهود الفردية، وإنما أصبح يستلزم جهداً جماعياً تنهض به المؤسسات، والمنظمات، والجمعيات، ولذلك فقد بدأت هذه المؤسسات في الظهور والتوسع والنمو، حتى أصبحت ظاهرة لا تخلو منها مدينة من المدن الأوروبية، واندرج أغلب الناشط ذي الصبغة الإسلامية ضمن أعمال المؤسسات والمنظمات والمراكز الثقافية، والاجتماعية، والدينية، والتربوية.
وحينما آل الآمر إلى المنظمات في توجيه الوجود الإسلامي، والإشراف عليه، فإنها وجدت نفسها في مواجهة تحدّيات كبيرة بطرحها هدف التوطين الذي أصبح هدف المرحلة المقبلة لهذا الوجود، وما يقتضيه ذلك من اندماج في المجتمع، وانخراط فيه، ولعل من أكبر هذه التحديات هو التحدي الذي يطرحه السؤال التالي: ما هو دور المسلمين في أوروبا ضمن هدفهم الجديد الذي هو هدف التوطين؟ وما هو موقعهم فيه، هل هو الهامش الذي يبقيهم خارج الدائرة، دائرة المجتمع، أم الاندماج الذي ينتقل بهم إلى قلبه؟ وفي التفاعل مع هذا السؤال بدأت تظهر بوادر لجواب يشغل الأذهان، وتنطق به الألسن، ولكنه ما يزال غير بيّن في مغزاه، وغير نضيج في محتواه، وغير محرّر في مبناه، فضلاً عن تحديد الطرائق والسبل التي تؤدي إليه.
وذلك الجواب هو أن الوجود الإسلامي في أوروبا فيما حدّد لنفسه من هدف التوطين ينبغي أن يكون قائماً بدور الشراكة الحضارية مع المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يكون تبعاً لذلك حالاً من المجتمع في دائرته الحية، مندمجاً في سائر المكونات الاجتماعية متفاعلاً معها، غير مقتصر على الحلول بالأطراف الهامشية، كما كان عليه الأمر في المرحلة السابقة. والشراكة الحضارية كما سنشرحها تساعد على هذا الاندماج، وتدفع إليه، ما يتحقق من الاندماج يساعد هو بدوره على المضيّ في الشراكة الحضارية. ولذلك فإن التخطيط لهذا المشروع، وتيسير السبل لتحقيقه، هو فيما نقدّر المدخل الأساسي الذي يجعل المسلمين بأوروبا يندمجون في مجتمعهم ليكونوا أحد مكوناته الأساسية، وليرتبطوا معها مثل سائر المكوّنات بالعقد الاجتماعي الجامع، فما هي حقيقة هذه الشراكة الحضارية ومؤهلاتها؟ وما هو مضمونها؟ وكيف تكون مدخلاً للاندماج الإيجابي في المجتمع؟
الشراكة الحضارية
يقتضي العقد الاجتماعي الذي يربط كافّة مكوّنات المجتمع من الأفراد، والجماعات، والفئات أن يكون هؤلاء جميعاً شركاء في المجتمع الذي تعاقدوا فيه، وشركاء في القضايا التي تعاقدوا عليها متمثلة في جملة من الحقوق، والواجبات، ومن القوانين، والأعراف والعادات. ومن أهم البنود التي يتم عليها التعاقد العمل من أجل المصلحة، مصلحة المجتمع، عملاً يهدف إلى الترقّي به إنسانياً، ومادياً، وذلك هو البناء الحضاري الذي يشترك الجميع في النهوض به على سبيل الوجوب بمقتضى الانخراط في العقد الاجتماعي. والشراكة الحضارية التي هي موضوع بحثنا لا تخرج عن هذا المعنى مع خصوصيات لهذا الطرف الذي يمثله المسلمون بمقتضى صفتهم الإسلامية، فما هي حقيقة هذه الشراكة باعتبار خصوصياتها؟ وهل لها من سند شرعي من ذات هذه الخصوصية الإسلامية؟
الشراكة الحضارية في الميزان الديني
إن هذه الشراكة الحضارية بالمعنى الذي وصفنا تجد لها في نفوس المسلمين دافعاً دينياً عقدياً، وهو ما يتمثل فيما يوجبه الدين على المسلم من أن يكون صاحب رسالة في أيّ موقع كان فيه، وفي أي موضع من أوضاع حياته، وتلك الرسالة هي أن ينفع الناس ما استطاع أن ينفعهم، وأن ينتفع منهم ما استطاع أن ينتفع، وأن يتعاون معهم فيما فيه الخير للجميع، وهذا المعنى هو المضمّن في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13)، وفي قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة: 143)، فالشهادة على الناس تعني من بين ما تعني تبليغ المسلم ما عنده من خير مادي أو معنوي للناس، والعمل على أن ينفعهم بذلك الخير، والتعاون على البر والتقوى يعني مدّ المسلم حبال التوافق مع من يعيش معهم من الناس ليشتركوا جميعاً في إنجاز ما فيه لهم مصلحة مشتركة، وكل هذا واجب على المسلم إزاء المجتمع الذي يعيش فيه بقطع النظر عن اختلافه معه أو اتفاقه في المعتقد أو في الثقافة أو في العرق.
إذن فإن في المخزون الديني الثقافي للمسلم ما يدفعه إلى أن يندمج في المحيط الأوروبي الذي يعيش فيه شريكاً لكلّ مكوناته البشرية في النهوض بأعباء الحياة، وفي العمل على تطويرها إلى ما فيه خير الجميع، وفي التعاون مع الآخرين – اتفق معهم أو اختلف في الدين – على التعمير في الأرض التي هي في المعتقد الإسلامي المهمّة التي من أجلها خلق الإنسان وفقاً لقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 30)، فإذا ما تقاعس عنها لأي سبب من الأسباب اعتبر متقاعساً عن أداء ما من أجله خلق، وهو ما يجعله في المنظور الديني يبوء بالإثم الكبير، والعاقبة السيئة.
العطاء الحضاري
إذا تجاوزنا ما يمكن أن يكون للمسلمين بالغرب من عطاء حضاري في المضمار المادي بعد دورات من التعلّم تنتهي بالقدرة على العطاء ينتظمون بها في مسيرة الإنجاز الحضاري المادي، فإنهم يتوفرون ناجزاً على مقدرات للعطاء قائمة بالفعل، وهي تلك المقدرات المتمثلة في القيم الروحية، والأخلاقية، والاجتماعية، والبيئية التي يحملونها جراء تعاليم دينهم الذي يؤمنون به، وما زال الأكثر منهم ملتزمين به تصديقاً وعملاً، مهما يكن من تفاوت بينهم في ذلك الالتزام.
إن تلك القيم التي يتوفر عليها المسلمون هي قيم تمثل في ذاتها عطاءً عظيماً للبشرية على مرّ الزمن، لا يفقد منها شيء قدره في ميزان الخير بتقادم الزمن، وقد جرّبها التاريخ فأثمرت حضارة مشهودة قد لا يكون الإنسان شهد لها نظيراً، ثم إنها تمثل عطاءً عظيماً في هذا الظرف الذي تمر به الإنسانية عموماً، والذي تمر به الحضارة الغربية خصوصاً، إذ تشكو هذه الحضارة من أزمات متعددة أخلاقية، واجتماعية، وأسرية، وبيئية، وهي أزمات تطلب علاجاً في مثل تلك القيم التي يتوفر عليها المسلمون بتوجيه دينهم الحنيف، وذلك أمر أصبح يؤمن به، ويدعو إليه كثير من مفكّري أهل هذه الحضارة وحكمائهم. فللمسلمين إذن رصيد معتبر يمكن أن يدخلوا به سوق الشراكة الحضارية في المجتمع الغربي الذي أصبحوا جزءاً منه، وعنصراً من عناصره.
ومن تلك القيم التي يمكن أن تكون عنصراً أساسياً في العطاء الحضاري للمسلمين ما يتعلق بقيم الأسرة، والأوضاع التي تنبني عليها، والمقاصد التي توجّهها، فقد اهتم التشريع الإسلامي بالأسرة كما لم يهتمّ بأي موضوع اجتماعي آخر، وضبط فيها من الأحكام المفصلة، ومن القيم الموجّهة ما هو كفيل بأن يجعل منها مناخاً نفسياً واجتماعياً يوفر بدرجة عالية الصحة النفسية والاجتماعية، وذلك مما بُنيت عليه الأسرة من المسؤولية، والاحترام، والتكافل، والمودة والرحمة، بالإضافة إلى ما بنيت عليه من ضبط دقيق للحقوق والواجبات.
الفصل الرابع: النزعة الإنسانية العالمية في التصوف الإسلامي
ويمتاز التصوف الإسلامي بنزعة إنسانية عالمية منفتحة على سائر الأديان والأجناس. وإذا كان الإسلام في جوهره ديناً منفتحاً على كل الأجناس لا فرق عنده بين مسلم ومسلم يختلفان جنساً أو لغةً أو مكاناً أو زماناً، فإن الصوفية المسلمين قد وسّعوا من الآفاق التي يستشرف إليها الإسلام، فامتدوا بها إلى الأديان الأخرى:
فأبوا يزيد البسطامي يدعو الله لجميع الناس، ويلتمس منه أن يبسط رحمته على النوع البشري كله، ويود لو يتشفع للناس كافة لا للمذنبين من الأمة الإسلامية وحدهم بل لكل الخطاة بأيّ دين دانوا، ويود لو تحمّل عن الخطاة جميعاً العقاب فاتسع وجوده ليشمل النار كلها فلا يبقى فيها موضع لغيره.
1. ومن كلماته المشهورة في هذه المعاني: (أنه اجتاز بمقبرة اليهود فقال: معذورون، ومرّ بمقبرة المسلمين فقال: مغرورون) .
2. (جاز أبو زيد على مقابر اليهود فقال: ما هؤلاء تعذّبهم؟ كُفَّ! عظام جرت عليهم القضايا اعف عنهم!) .
3. قال أبو يزيد: (إلهي! إن كان في سابق علمك أن تعذّب أحداً من خلقك بالنار، فعظم خلقي فيه (أي النار) حتى لا يَسَع معي غيري).
4. (ما النار؟) لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلني لأهلها فداءً. أو لأبلعنّها! ما الجنة؟ لعبة صبيان! .
ه. لو شفّعني الله في الأولين والآخرين لم يكن ذلك عندي بكثير غاية الأمر أنه شفّعني في لقمة طين.
ومحي الدين بن عربي عبر عن هذه النزعة الكلية في أبياته المشهورة:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
وبيت لأوثان، وكعبة طائف
أدين بدين الحب أنى توجهت
فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وألواح توراة، ومصحف قرآن
ركائبه فالحب ديني وإيماني
ديوان شمس تبريز لرضا ولي خان هدايت ص 257 طبعة تبريز 1316 شمسية، وتوجد في كليات شمس تبريز ص 460 طبع الهند مطبعة منشي نول كشور في لكهنو الآتي نصه:
وكثيراً ما ردّد جلال الدين الرومي هذا المعنى في قصائده، ونذكر منها:
جه تدبير أي مسلما نان كه مَنْ خودرا تميدَانمْ
نه شر قيم غربيّم نه علو يم نه سُفْلم
نه از هندم نه أزجينم نه از بلغار وسقينم
نشانَم بي نشان باشد مكانَمْ لا سَكان باشد
دوئي راجون برون كردم دو عالم رايكي ديدم
نه تَرْسانه يَهو دَيْم من نه كَبْرَم نه مسلما نَم
نه ز أركان طبيعيم نه از أفلاك كردانَم
نه ازمْلك عراقينم نه ازخاك خُراسانَمْ
نه قن باشدانه جان باشد كه من خودجان جانانم
يكي بينم يكي جويم، يكي دائم، يكي خواتم
وترجمتها:
أيها المسلمون ما التدبير؟ أنا لا أدري من أنا فلا أنا مسيحي ولا يهودي ولا زرداشتي ولا مسلم
ولا شرقي ولا غربي ولا علوي ولا سفلي ولا أنا من عناصر الطبيعة ولا أن من الفلك الدوار
ولا أنا هندي ولا صيني ولا بلغاري ولا من سقسين ولا عراقي ولا من أرض خراسان
علامتي بلا علامة، مكاني بلا سكان ولا أنا جسم ولا روح فنفسي رح الأرواح
لما لفظت الإثنية رأيت العالم واحداً إني أرى واحداً، وأنشُد واحداً، وأعلم واحداً وأقرأ واحداً
وفي هذه المعني أيضاً يقول ابن الفارض في تائيته المشهورة:
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد
وأسفار توراة الكليم لقومه
وإن خرّ للأحجار في البد عاكف
فإن حُلّ بالأقرار بي فهي حلّت
فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
يُناجي بها الأحبار في كل ليلة
فلا وجه للانكسار بالعصبية( )
فهو يجمع بين تجارب النصارى، واليهود، والبراهمة، ويرى فيها فروعاً لينبوع واحد هو التقوى الكاملة المبنية على أساس وحدة الوجود.
وهكذا يحقق الصوفية المسلمون، وإلى أعلى درجة ذلك المجتمع المفتوح Société ouverte الذي تحدث عنه برجسون في كتابه المشهور "ينبوع الأخلاق والدين"، لأنهم منفتحون على كل التجارب الدينية الإنسانية، متعاطفون مع سائر التيارات الروحية، مستشعرون للإخوة الإنسانية الجامعة بين الناس جميعاً على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
الباب الرابع: المعالجة الإسلامية الشاملة لأزمة الفكر الإنساني
الفصل الأول: الإسلام وتحديات العصر
مشكلة الإسلام اليوم أنه في قفص الاتهام يُتّهم أبناؤه بالعنف المتطرف تجاه الآخر والسعي لإزالته من الوجود بارتكاب المجازر والتفجيرات التي تهدد السلام والأمن العالميين، بل تحارب الاستقرار والأمان والاطمئنان الحياتي والإنساني، والعكس هو الصحيح، الإسلام دين محبة وتسامح، فالمشكلة هي كيف نثبت ذلك للآخر، أضف إلى ذلك تحديات العصر، عصر العولمة والتقنية، عصر المعلومات والاتصالات والماديات وغيرها من التحديات، فالتحديات الراهنة هي أعمق وأشمل من جميع التحديات التي واجهها من قبل ذلك أن الإنسان العصري يستبدل بالديانات السماوية أياً كانت الديانة بجدية كل الجدة لأنها لها أصولها الفلسفية في الطبيعة، والمادية، والدهرية، ولكن الفرق الأساسي بين تحدياتها الماضية وتحدياتها الراهنة هو أنها خاطبت في الماضي عقل الإنسان وحاولت أن تزعزع يقينه بأي معتقد ديني، لكنها اليوم بقدرتها الاختبارية والاكتشافية الخارقة تتناول حياة الإنسان، وتحاول أن تخلقها خلقاً جديداً. والديانة بصورة عامة، والإسلام بصورة خاصة، نظام للفكر، ونسق للحياة. والديانة العلمية العصرية، سواء كانت ماركسية أو غير ماركسية، تعتبر أن التقدم جبّ ما قبله من مناهج الفكر وأنماط الحياة، وأحل محلها المنهج العلمي والنمط العلمي. وقد درجنا نحن منذ ابتداء يقظتنا الحديثة على دفع خطر هذا التحدي بوضع العلمية الحديثة، سواء أجاءتنا من الغرب أو من الشرق، بأنها حركية مادية تفتقر إلى ما نحن فيه من روحيات.
فالآخرون من سدنة المادة، ونحن سدنة الروح، وما دامت الإنسانية الحديثة مستغرقة في سباتها المادي فإن يقظتها الروحية مرهونة بنا، وخلاصها الروحي متوقف علينا، على أننا مدركون حقاً لطبيعة التحديات التي تواجهنا، فالعملية الحديثة لا تفجر في الإنسان القدرة على السيطرة على المادة، ولا تعزّز أهليته لتسخير الطبيعة فحسب، ولكنها تفجر فيه أيضاً طاقاته الروحية والخلقية على نحو جديد، ولولا هذا التفجير لطاقات الإنسان الخلاقة لما هيأت العلمية الجدية للإنسان الحديث أن يصنع باسم الديمقراطية، والليبرالية، والقومية، والاشتراكية، والماركسية حياة جديدة سواء أجاء هذا التطلع من الغرب أو من الشرق أو من أوربا أو أمريكا أو آسيا أو أفريقيا.
وإعجاز الإسلام الأكبر هو أنه البعد الأزلي في نفس الإنسان وحياته، ولكن هذا البعد يفقد معناه ويصبح غير ذي موضوع إن لم يتسع لجميع الأبعاد الزمانية والمكانية التي امتدّ إليها وجود الإنسان منذ أن ركد الإسلام في القرن الرابع عشر إلى أن أعاد اليقظة في نهاية القرن الثامن عشر، ومنذ أن سرت في كيانه اليقظة الجديدة حتى يومنا هذا. إن قاعدة الإسلام الأولية هي الاعتقاد بوجود الله الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فهو واحد وحقيقته واحدة لا يأتيها الباطل من قريب ولا من بعيد، الإنسان اليوم يتحدى هذه الحقيقة، يتحداها بالإنكار أو اللامبالاة، ويتحداها بالنفي أو الاستهزاء، ويتحداها بنقضها أو باعتبارها غير ذات موضوع بالنسبة لما هو عليه الإنسان وما هو صائر إليه.
الفصل الثاني: الغلو عند المتصوفة
إن ثمة مظاهرة عديدة للغلو عند المتصوفة، وقد فرق شيوخ الصوفية بين الصوفي، والمتصوف والمستوصف، فيقول الهوجويري: "وهم الصوفية يسمون أهل الكمال منهم الصوفي، ويسمون المتعلقين بهم وطلابهم بالمتصوف... والمستوصف هو من تشبه بهم من أجل المنال، والجاه، وحظ الدنيا، وهو غافل عن هذين وعن كل معنى إلى حد أن قيل: المستوصف عند الصوفية كالذباب، وعند غيرهم كالذئاب .
وهذه المظاهر هي نتيجة التأثر بالثقافات الوافدة المختلفة، وإنما هذه المظاهر تعد غلواً لأنها تجاوزت أدبَي العقل والشرع.
وسيركز الباحث على بعض المظاهر الأساسية لهذا الغلو، لأن البحث لا يهدف إلى استقصاء جميع المظاهر. سيقف الباحث عند نظرية الحلول، والاتحاد، والفناء، ووحدة الوجود ووحدة الأديان، كنماذج.
أولاً: نظرية الحلول Incarnation
إن الدارس للتراث المسيحي يجد أن هذين المصطلحين – الحلول والاتحاد – يدلان على معنى واحد، ولكن يحدث الاختلاف في كيفية تأويلهما، وتفسيرهما على مقتضى عقيدة كل فرقة من فرق النصرانية.
ولكن من خلال عرض الردود الإسلامية على النصارى، نجد أن علماء المسلمين يعيبون هذه الطريقة التي اقتفاها واجتباها النصارى في استعمالهم لذينك المصطلحين بمعنى واحد.
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 145ه): "اعلم أن مذهب النصارى لا يكاد يتحصل ، وكفى بالمذهب فساداً أن يصعب على العلماء ضبطه".
وقال الفخر الرازي (ت 606ه): "اعلم أن النصارى يذكرون الحلول تارة، والاتحاد أخرى، وكلامهم في غاية الخبط .
وقد أشار أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى (403ه)، في كتاب "تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل قائلاً: أو بالأحرى إلى اختلاف فرق النصارى حول مفهوم الحلول. ومن الذين كانوا يشكون من صعوبة فهم عقيدة النصارى الجاحظ" .
إن المذهب السطوري حلولي من وجهة نظر بعض الإسلاميين، ولكنه في الحقيقة حلولي على طريقة الامتزاج، وبيان ذلك أن هذين المصطلحين مع تغايرهما في المعنى فإن ثمة ترابطاً وثيقاً يجمع بينهما، وهو أن الحلول سابق للاتحاد، أو نقول إن الاتحاد مسبوق بحلول، بل لا اتحاد بلا حلول، وهذا متفق عليه بين جميع العقلاء، فالحلول هو حلول الحال في المحل، إما أن يكون اتحاداً سواء كان كلياً أو جزئياً، وإما أن يبقى كما هو، أي مجرّد حلول من غير حدوث أي عملية اتحاد وامتزاج واختلاط. فالفرق النصرانية سواء قالت بالحلول أو الاتحاد فإن المآل واحد، وهو الامتزاج، والصيرورة إلى تركيب آخر لا يضاهي مكوناته وما تركّب منه، بل يختلف تمام الاختلاف.
قال الفخر الرازي : "وأما القول بالاتحاد، فهو أيضاً باطل، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد إن كانا باقيين، فهما اثنان لا واحد، وإن عُدما معاً، كان الحاصل ثالثاً مغايراً لهما، وإن بقي أحدهما وفني الآخر، امتنع الاتحاد أيضاً لأن الموجود لا يكون عين المعدوم".
ويمكن ذكر بعض الفرق التي قالت بالحلول في تاريخ الفكر الإسلامي بإيجاز كالآتي:
1. الحُلمانية.
2. السبئية.
3. البيانية.
4. الخطابية (النميرية).
5. الجناحية.
6. المقنعية.
7. الرزامية.
8. البركوكية.
9. الحذافرة، بغض النظر عن كيفية هذا الحلول الذي قالوا به، فإن لهم تفسيرات مختلفة.
جاء هذا عند البغدادي في "الفَرق بين الفِرق".
ذهب أكثر الباحثين إلى أن الحلاج (ت 309ه) من أعظم دعاة الحلول، بل كلما ذكرت هذه النظرية ذكر الحلاج معها.
ومعنى الحلول في حقيقة الأمر هو أن يحل اللاهوت في الناسوت من غير امتزاج بحيث يفقد كل واحد منهما طبيعته، ولهذا قال الحلاج: "من ظن أن الإلهية تمتزج بالبشرية، والبشرية بالإلهية فقد كفر".
ونكتفي بهذا القدر من الإيضاح لأن مجال البحث لا يسمح بالتوسع.
ثانياً: نظرية الاتحاد
تكلمنا أولاً عن نظرية الحلول، والآن نتحدث عن نظرية الاتحاد. هذه النظرية تتضمن القول بوجودين منفصلين عن بعضهما البعض، فهم يعترفون بوجود خالق ومخلوق منفصلين ومختلفين، ولكنهما اتحدا وصارا شيئاً واحداً، وهذه النظرية التي نقلها بعض رجال الصوفية إلى الساحة الإسلامية غريبة تماماً عن البيئة الإسلامية، وهي عقيدة مسيحية، يقول الشهرستاني:
"زعمت اليعقوبية أن كلمة الله انقلبت لحماً ودماً بالاتحاد، وزعم كثير منهم أن اتحاد الكلمة بالناسوت اختلاط وامتزاج، كاختلاط الماء وامتزاجه بالخمر واللبن إذا صب فيهما ومزج بهما، ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الجوهر لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة، بل صار هو هو"( ).
ومن هذا النص يتضح لنا أن الاتحاد يجئ في عقائدهم على الوجه الآتي:
الاتحاد الخاص:
وفيه أن اللاهوت، والناسوت اختلطا، وامتزجا؛ كاختلاط اللبن بالماء، وهذا هو اعتقاد اليعقوبة من النصارى، وتقول به بعض الفرق الغالبة التي خرجت عن الإسلام، وكانت تنسب إليه.
الاتحاد العام:
ومضمونه أنه عين وجود الكائنات، وهو قول الملاحدة، وممن اعتقد هذا المعتقد من صوفية المسلمين أبو يزيد البسطامي، ويعني بهذا الاتحاد الاتحاد بالله، وهو أن يصير المحب والمحبوب شيئاً واحداً فعلاً، سواء في الجوهر، والعقل، أي في الطبيعة، والمشيئة، والفعل الصادر منهما، فتكون الإشارة إلى الواحد عين الإشارة إلى الآخر ثم تختفي الإشارة لانعدام المثير، فلا يصير ثمة غير واحد أحد هو الكل في الكل( ).
وهذه العقيدة لا يستطيع أي عاقل أن ينسبها إلى الإسلام، وذلك لمخالفتها له مخالفة حادة وصريحة في كفرياتها، وابتعادها عن الإسلام، والذين اعتقدوا هذه العقيدة لم يعرفوا الإسلام أصلاً، أو كانوا من بين القوى الفكرية المناهضة للإسلام التي دستها الحركات المعادية للإسلام، والمناهضة له، والحاقدة عليه، وعلى أتباعه، وذلك لكي يفسدوا عليهم إسلامهم.
إبطال الإمام الغزالي لفكرة الاتحاد:
يقول الإمام الغزالي: "وأما بالنسبة للاتحاد بين الخالق والمخلوق، فهو أظهر بطلاناً، لأن قول القائل: إن العبد صار هو الرب، كلام يتناقض مع نفسه، بل ينبغي أن يتنزه الرب سبحانه وتعالى من أن يجري مجرى اللسان في حقه بأمثال هذه المحالات
وإذا كان القول بفكرة الاتحاد ظاهر البطلان، فهل يحتاج في إبطاله إلى دليل؟
فقد لجأ الإمام الغزالي في تبيان الاستحالة العقلية لهذه الفكرة إلى الطريقة الجدلية المعروفة لدى مفكري الإسلام التي تبين الحالات الممكنة للاتحاد، ثم يبرهن على استحالة كل منها فتنتهي بإثبات أن الاتحاد في جملته أمر لا يقره العقل في أعلى درجاته من الوعي، وذلك أنه في حالة الاتحاد بين ذاتين نجد ثلاثة احتمالات، هي:
1. إما أن يكون كلاهما موجوداً.
2. أو أن يكون كلاهما معدوماً.
3. أو أحدهما موجوداً والآخر معدوماً، أو بالعكس.
هذه هي الاحتمالات الممكنة للاتحاد بين ذاتين. ثم بعد ذلك أخذ الإمام الغزالي يبرهن على استحالة كل واحد منها:
1. فمعنى الاحتمال الأول: أن كل واحدة من الذاتين قائمة بنفسها، فلا تصبح إحدى الذاتين هي الأخرى، وإذن فليس هنا اتحاد. ومثال ذلك أن الإرادة، والعلم، والقدرة توجد في ذات واحدة، ولكنها ليست متحدة يبقى من المقرر أن الإرادة غير العلم و هما غير القدرة.
2. أما الاحتمال الثاني: القائل بفناء الذاتين أو عدمهما، فليس المرء في حاجة إلى بيان فساد هذا الاحتمال، إذ ينبغي الحديث عن الانعدام لا عن الاتحاد.
3. أما الاحتمال الثالث: وهو القائل بفناء إحدى الذاتين وبقاء الأخرى، فهذا باطل. وهنا يستعمل الغزالي الاستدلال العقلي لأن هذا مكانه فيقول: "كيف يتحقق الاتحاد بين معدوم وموجود، إذن وأصل الاتحاد باطل" .
ثالثاً: الفناء Self Annihilation
اتفق جلّ الباحثين على أن الفناء هو الغاية التي يطلبها كل سالك للطريق، ولكنهم اختلفوا في درجات هذا الفناء. ولما كان الفناء غاية العارفين، اختلفت المسالك والمدارك لتحقيق هذه الغاية السعيدة.
فنجد ابن عربي الأندلسي (ت 638ه) يقول: "الفناء عدم رؤية العبد لفعله بقيام الله على ذلك"( ). وقال الكلا باذي (ت 390ه): "فالفناء: هو أن يفنى عنه المحظوظ فلا يكون له في شيء من ذلك حظ، ويسقط عنه التمييز، فناءاً عن الأشياء كلها شغلاً بما فني فيه".
وقال علي محمد بن علي أبي الحسن الحسين الحنفي الجرجاني: في "التعريفات" بعد أن قسم الفناء إلى قسمين: أحدهما كسبي بطريق الرياضة، والآخر نستطيع أن نسميه تأملي، حيث قال: "عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، وهو بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق".
أما تعريف الكلا باذي فهو الذي يسميه ابن تيمية ب "الفناء عن شهود السِّوى".
والكلاباذي هو أبو بكر محمد ابن اسحاق، جاء هذا في كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف" .
الفناء عند ابن تيمية:
وابن تيمية هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن أبي البركات بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الخراساني.
أما ابن تيمية فيرى في كتابه "العبودية" أن الفناء ثلاثة أنواع:
1. نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء.
2. نوع للقاصرين من الأولياء والصالحين.
3. نوع للمنافقين الملحدين المشبهين.
1. الفناء الديني والشرعي:
هو الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب من غيره.
وهو المعنى الذي قصده الشيخ بقول أبي يزيد حيث قال: "أريد أن لا أريد إلا ما يريد" أي المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية. وكمال العبد أن لا يريد، ولا يحب، ولا يرضى إلا ما أراده الله، ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة، والأنبياء، والصالحين، وهذا معنى قولهم في قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (سورة الشعراء: الآية 89)، وقالوا هو السليم عما سوى الله أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد.
2. وأما النوع الثاني:
فهو الفناء عن شهود السِّوى، وهذا يحصل للكثيرين من السالكين، فإنهم لفرط انجذابهم أي انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله، وعبادته، ومحبته، وضعف غير الله، بل ولا يشعرون به كما في قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (سورة القصص: 10).
أي فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى و التحسر على فقدانه، وهذا كثيراً ما يعرض لمن دهمه أمر من الأمور إما حب، وإما خوف، وإما رجاء يبقى قلبه منصرفاً عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو أخافه، أو طلبه بحيث يكون عند الاستغراق في ذلك لا يشعر بغيره.
فإذا قوي على صاحب الفناء هذا، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات، والعبد فمن سواه، ويبقى من لم يزل، وهو الرب تعالى. والمراد فناؤها في شهود العبد، وذكره، وفناؤه عن أن يذكرها أو يشهدها، وإذا قوي هذا، ضعف المحب حتى يضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه.
ثم ذكر ابن تيمية قصة تضاهي هذه الحالة، وهي: أن رجلاً كان يحب آخر، فوقع المحبوب في اليم، فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت، فما الذي أوقعك؟ فقال: غبتُ بك عني فظننت أنك أني.
3. وأما النوع الثالث مما قد يسمى فناءً:
فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهو فناء أهل الضلال والإلحاد، الواقعين في الحلول والاتحاد، وهذا قول بوحدة الوجود، رغم أن الإمام أسماه بالحلول والاتحاد، وبين الأمرين فرق كبير.
رابعاً: وحدة الوجود Pantheism (The Unity of Existence)
لعل هذه النظرية الوحيدة التي لها تاريخ سحيق، فلم تخلو فلسفة من الحديث عنها بغض الطرف عن نوعية هذا الحديث، وذلك لأن هذه النظرية تتخذ أبعاداً مختلفة، وطرقاً شتى.
فالنظرية لا تنطوي على معنى واحد عند كل من يقول بها، فمثلاً ما يذكره "اسبينوزا" لا يماثل ما يقوله أشياع الفلسفة الهندية، ولأجل ذلك فمن الضروري ذكر هذه المذاهب بصورة وجيزة جداً، حتى تتم معرفة هذه الآراء حول تفسير النظرية وتحليلها:
1. الفلسفة الهندية:
مذ أن وجدت عقيدة وحدة الوجود في الهند لم يتخلّ عنها المصلحون كالفيداوية والفيدانية، فقد كان حكماء الهند يتبنون وحدة الوجود بشكل أساسي في فلسفاتهم وتأملاتهم.
وحقيقة هذه النظرية يصورها لنا البيروني، حيث يقول: "إن الوجود شيء واحد، وإن العلة الأولى تتراءى فيه بصورة مختلفة، وتحل قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتحاد" .
2. الفلسفة الصينية:
ومن أتباعها "التاوية" "Toaism"، يقول "لاوتسو" "Laotzu" مؤسس التاوية (ت 517 ق.م) ل "تاو": "ثمة شيء لا صورة له، إلا أنه كامل قائم قبل أن توجد السموات والأرض، لا صورة له، ولا جوهر موجود ولا يتغير، يتحلل كل شيء؛ إنه منشئ جميع ما في الكون، لا نعرف اسمه، ولكن نصطلح عليه بكلمة "تاو"، وكنيته العظيم .
3. الأفلاطونية المحدثة Neo-Platonism، وشيخها إفلوطين (290م):
بعد أن قسم الدكتور عبد الرحمن بدوي وحدة الوجود إلى قسمين: وحدة وجود باطنة ووحدة وجود صدورية، جعل ما عند الأفلاطونية المحدثة من القسم الثاني، أي وحدة وجود صدورية والتي تعني: "بأن المبدأ تصدر منه الموجودات، أو الله تصدر عنه المخلوقات، وهذا الصدور لا يمس جوهر الله مطلقاً .
الفلسفة الغربية Western Philosophy
اشتهر من بين فلاسفة الغرب كثيرون قالوا بوحدة الوجود، كان من بينهم يوهان مايستر إيكهارت (ت 1327م) وهو فيلسوف صوفي من ألمانيا اتُّهم بالهرطقة في بضع وعشرين قضية، من بينها القول بوحدة الوجود، وهي القضية الثالثة من بين القضايا الثماني والعشرين، حيث قال: "والله ليس هو كل الموجودات، وإن كل الموجودات هي في الله، ولا يفصل الخالق عن المخلوق شيء"
وأوضح ذلك قوله "كل شفرة عشب وقطعة خشب وحجر تجليات وحدة كونية واحدة".
وكذلك اسبينوزا (ت 1677م) الفيلسوف الهولندي اليهودي، حيث يرى أن الله والطبيعة شيء واحد. ولما كان الله والطبيعة شيئاً واحداً، فإننا بقدر ما نتصور الأشياء صادرة عن طبيعة الله فإننا نتصورها تحت نوع الأبدية .
ولقد تطرف متصوفة الغرب بشكل غير عادي، حيث بلغ بهم القول إلى أن التصوف إذا أُريد تعريفه فهو الشخص الذي يشعر باتحاد في الكون أعظم من الوحدة المعترف بها في الحياة العادية .
شغل هذا المذهب مساحة واسعة في الفكر الإنساني عامة، وفي الفكر الإسلامي خاصة، ولا يدانيه –فيما نعلم- مذهب في صياغته وسيطرته وتأثيره، ومن أجل ذلك نجد أن أتباعه جاوزوا العد، ليس في التصوف الإسلامي فحسب بل في جميع التصوفات العالمية.
وموضوع هذا البحث يقتضي التركيز على ابن عربي، فهو الممثل للنظرية في كل أبعادها، ولعل هذه النظرية هي آخر ما انتهت إليها فلسفة ابن عربي (ت 638ه) الصوفية. وابن عربي صاحب هذه النظرية هو غير ابن عربي صاحب "أحكام القرآن" المتوفي سنة 543ه، وذلك لأنه قد قضى وقتاً طويلاً في كيفية صياغتها، والتي شغلت فكره، وأرهقت ذوقه وخياله، ولم يستطع مع ذلك أن يذكرها جملة واحدة خوفاً من سطوة الفقهاء، قال ابن عربي: "وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو، فغوره بعيد، والتلف فيه قريب" .
ولمصير الحلاج دور فعال في تغييض ابن عربي، وإيقاف خياله الواسع دون تجاوز الحدود حيث قال ابن عربي:
فمن فهم الإشارة فليصنها
كحلاج المحبة إذ تبدت
فقال أنا هو الحق الذي لا
وإلا سوف يقتل بالسنان
له شمس الحقيقة بالتداني
يغير ذاته مر الزمان
ولأجل ذلك ذكر ابن عربي مذهبه في ثنايا كتبه وبالأخص "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم"، يقول ابن عربي: "وأما عقيدة خلاص الخاصة في الله تعالى فأمر فوق هذا، جعلناه مبدداً في هذا الكتاب لكون أكثر العقول محجوبة بأفكارها تقصر عن إدراكه لعدم تجريدها"، ولكن مع ذلك نجده يصرح بمذهبه أحياناً، وإذا ما وجد أي اعتراض أو سوء فهم يوقعه في أمر لا يحمد عقباه، وجد لكلامه تأويلاً مستساغاً مثال ذلك قوله:
يا من يراني ولا أراه
كم اذا أراه ولا يراني
فقال لي بعض إخواني كيف تقول: إنه لا يراك، فقلت له في الحال مرتجلاً:
يا من يراني مجرماً
كم ذ أراه منعماً
ولا أراه آخذاً
ولا يراني لائذاً
والبيت الأخير صريح في وحدة الوجود، وذلك لأنه يرى الوجود في صورة الممكنات أي وجود الحق في صورة الممكنات. جاء هذا في مرجع الفتوحات المكية لابن عربي 1/47.
خامساً: وحدة الأديان
نظرية وحدة الأديان:
ما يهمنا من نظرية وحدة الأديان هو قول الفيلسوف ابن عربي، والشاعرين الصوفيين ابن الفارض وجلال الدين الرومي في هذه الدعوة، مع العلم أن أهل التصوف باستثناء قلة منهم لم يعيروا موضوع الأديان أي اهتمام، إذا كان هدفهم عبادة الله تعالى مباشرة ومن دون وسيط والفناء في حبه.
من الأوائل الذين أطلقوا نظرية الشريعة الواحدة للعالم كانت الإسماعيلية، إذ نشر دعاتهم في البلاد الإسلامية عقيدة رجوع الإمام الغائب محمد بن إسماعيل وقالوا إنه "سيمنع الظلم والجور ويستتب السلام والأمن فيشرب الثور والأسد من وعاء واحد والذئب يرعى والغنم، كما بظهوره ينتهي دور الإمامة، وينشئ شريعة تعم العالم، وتنسخ ما قبلها من شرائع، وهو صاحب القيامة".
أما في عقيدة الشيعة الاثني عشر، فالإمام الغائب هو محمد بن حسن العسكري، الذي سوف يملأ الأرض-عند عودته- عدلاً كما ملئت ظلماً، وتنجلي معه جميع الأسرار، وستكون سيطرة الدين النقي والحقيقة، فالشيعة الاثني عشرية لم يقولوا بإنشاء شريعة جديدة أو كتاب جديد كما قالت الإسماعيلية.
يقول الدكتور عرفان عبد الحميد
عن دعوة وحدة الأديان "ترتد هذه الدعوة في أصولها الأولى إلى فرق غلاة الشيعة ممن حاولوا المزج والتوفيق بين العقائد الإسلامية، وأنظار، وأفكار استمدوها من الأديان والفلسفات الأخرى كاليهودية، والمسيحية، والمجوسية، ثم يقول: فالتقوا في محاولتهم هذه مع ما عرف في الدوائر الغنوصية من ميل إلى الجمع والتلفيق".
أما حركة أخوان الصفا التي كانت تهدف في جوهرها إلى جمع وتوحيد المذاهب فقد نادت بوحدة الأديان، وتقول إحدى رسائلهم "ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى ألا يعادوا علماً من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا لمذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم كلها".
تولدت لدى غلاة الصوفية نزعة نحو إلغاء ومحو الحدود التي تفصل بين المذاهب والعقائد والأديان، سوى طرق توصل إلى غاية واحدة وهي عبادة الله عز وجل.
يقول ماسينيون: "زعم بعض الصوفية بان الشوق إلى الله يجب أن يمحو من نفوسنا الصور الخارجية ليس إلا وسائط يجب تجاوزها إلى الحقيقة الإلهية التي تنطوي عليها".
ويقول الحلاج: "واعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألعاب مختلفة، وأسماء متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف".
يقول ابن عربي: "فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ وما ذكر أينا من أين وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته".
ويقول: عقد الخلائق للإله عقائداً، وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه، يقول بعض المفكرين أن ابن عربي تأثر بفلسفة المفكر الهندي "شانكارا" الذي قال: "أعبد الله في أي معبد شئت أو اركع أمام أي إله بغير تفريق".
ويقول ابن عربي شعراً:
لقد صار قابلاً كل صورة
وبيت لأوثان، وكعبة طائف
أدين بدين الحب أنى توجهت
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وألواح توراة ومصحف قرآن
ركائبه فالحب ديني وإيماني
أما الدكتور طلعت غنام فيقول: "إن نظرية وحدة الأديان هي متولدات وحدة الوجود لدى ابن عربي، أما الجسر الذي وصل إليه أو عبره ابن عربي إلى نظريته فهو أن الكل يعبدون الإله الواحد المتجلي في صورهم وصور جميع المعبودات، أما الغاية الحقيقية من العبادة فهي التحقق من الوحدة الذاتية معه والتحقق بها، وإذا كان هناك باطل في العبادة لدى نظرية ابن عربي فالباطل عنده أن يقصر الإنسان ربه على مجلى واحد دون غيره".
والشاعر الصوفي جلال الدين الرومي يقول: "مسلم أنا ولكني نصراني، وبرهمي، وزرادشتي توكلت عليك أيها الحق الأعلى، فلا تنأ عني ليس لي سوى معبد واحد أو مسجد أو كنيسة، أو بيت أصنام، ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي فلا تنأ عني".(57)
ويقول عبد الكريم الجيلي: "فكل هذه الطوائف عابدون الله تعالى كما ينبغي أن يعبد لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق.
ثم أنه، سبحانه وتعالى، أظهر في هذه الأمم حقائق أسمائه، وصفاته، فتجلى في جميع نعم جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف".
وهاجم ابن تيمية دعوة وحدة الأديان، وقال إنهم مشركون عدلوا بالله كل مخلوق وجوزوا أن يعبد كل شيء، ومع أنهم يعبدون كل شيء فإنهم يقولون ما عبدنا إلا الله، وهذا مخالف لهدي المرسلين وأهل الكتاب والملل جميعاً، ولدين المشركين أيضاً، ولما فطر الله عليه عباده مما يعقلونه بقلوبهم، ويجدونه في نفوسهم.أ.ه
الفصل الثالث: أهمية إبراز الوجه المشرق للإسلام عالمياً
آن الأوان أن يثبت المسلمون للعالم أنهم أسياد حضارة ومجد تليد وتاريخي عظيم، هم آباء التمدّن والرقي والتقدم والازدهار، وإن كانت حضارتهم سادت ثم بادت إلا أنهم على استعداد لفعل المعجزات. بين المسلمين عباقرة مبدعين، مثل أبو القنبلة النووية الباكستانية عالم الذرة الباكستاني عبد القادر خان، ومثل عالم الفضاء المصري والذي يحمل الجنسية الأمريكية فاروق الباز، وجراح القلب العالمي البريطاني المصري الأصل اللورد مجدي يعقوب، وكذلك عالم الذرة القدير الذي رأس أكبر مؤسسة عالمية للذرة العالم المصري محمد البرادعي الذي فاز بجائزة نوبل للسلام، ولا ننسى الدكتور زويل والذي فاز أيضاً بجائزة نوبل للسلام، هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر كثر العلماء المسلمون في مختلف تخصصاتهم شيباً وشباباً، ومن العلماء الشباب نضال ابن الدكتور عبد الرازق قسوم.
إن كان ذلك كذلك، فما الذي ينقص العالم الإسلامي؟ العالم الإسلامي تنقصه الماكينة الإعلامية المتخصصة المحترفة القادرة على إبراز إمكانات المبدعين الموهوبين من أبناء الأمة الإسلامية.
ولكي تتكامل الأدوار، على هيئة علماء المسلمين واجب كبير ودور خطير في إبراز جماليات الوجه المشرق للإسلام عالمياً بإقامة المؤتمرات وإدارة الحوارات وبالذات حوارات الأديان وحوارات الحضارات والثقافات. ولأن الشيء بالشيء يذكر، نتناول هنا التعاون بين الأديان.
التعاون بين الأديان الكتابية
المقصود بالأديان الكتابية تلك التي تستهدي بكتب مقدسة هي بمثابة دساتير أدبية لها ترشد إلى السلوك المستقيم وإلى فلسفة الحياة الرفيعة، ومن أمثلتها الموسوية، والمسيحية، والإسلام. ومن خير الحركات التي عرفناها في العالم الجديد حركة "البرلمان العالمي للأديان World Parliament for Religion" الذي اشتركنا في تأسيسه منذ سنوات وأصبحت له منزلة مرموقة في دوائر شتى وأقطار شتى، وفي مقدمتها دوائر الأمم المتحدة، فإن هذا المؤتمر يعمل جاهداً لخلق التعاون بين الأديان الكتابية، وهي متعددة، عن طريق فلسفتها الإنسانية المشتركة، فلسفة المحبة والإخاء البشري لا أكثر ولا أقل، إذ أنه لا شأن له بالسياسة وما إليها من العوامل المفرقة أو الهدامة، وقد خلق ليبشر بالتعاون والمودة بين الأديان لما فيه سعادة الإنسانية.
إن روح الله لأعظم من أن توصف وصفاً شاملاً، إذ أنه فوق فهم العقل البشري الحاضر، وما نرى منها إلا بصيصاً يسيراً في آيات الطبيعة. وإذا كان الله قد خلق عالمنا المعروف ب "المجموعة الشمسية" في ستة أيام أي في ستة أطوار، فثمة عوالم أخرى عديدة لم تتناولها الكتب المقدسة، كما أن آيات خلقه لا تزال مستمرة، ومن ثمار التعاون بين الأديان فهم روح الله فهماً أصلح، وفي هذا المجال قد يسهم الإسلام إسهاماً كبيراً. إن الخلاف على عقيدة الإلوهية بين الأديان كان من علل التعصبات القديمة الذميمة، والمنازعات الدموية التي لطخت تاريخ الإنسانية في قرون سابقة، ولا يزال من علل شقائها الحاضر. يقول الغزالي عن حكمة الله وتدبيره: "وليس من شيء قليل أو كثير، صغير أو كبير، زيادة أو نقصان، راحة أو نصب، صحة أو وصب إلا بحكمته أو تدبيره ومشيئته، ولو اجتمع البشر والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها أو ينقصوا منها أو يزيدوها بغير إرادته، وحوله وقوته لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا، ما شاء كان وما لم يشأ لا يكون، ولا يرد مشيئته شيء، ومهما كان ويكون فإنه بتدبيره وأمره وتسخيره".
وقال أيضاً في "التبر المسبوك": "اعلم أن الباري تعالى ليس له صورة ولا قالب، وأنه تعالى لا ينزل ولا يحل في قالب، وأنه تعالى منزّه عن الكم والكيف، وعن لماذا ولم، وأنه لا يشبهه شيء، وكل ما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التكييف والتمثيل فإنه منزّه عن ذلك، لأن تلك من صفات المخلوقين وهو خالقها ولا يوصف بها، وأنه تعالى جدّه ليس في مكان ولا على مكان، فإن المكان لا يحصره، وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه، تحت قدرته وتسخيره، فإنه قبل خلق العالم كان منزهاً عن المكان، وليس العرش بحامل له، بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، وأنه تقدّس عن الحاجة إلى المكان قبل خلقه للعالم وبعد خلقه، وأنه متّصف بالصفة التي كان عليها في الأزل، ولا سبيل للتغيير والانقلاب إلى صفاته، وهو سبحانه متقدس عن صفات المخلوقين منزّه، وهو في الآخرة مرئي كما نعلمه في الدنيا بلا مثل ولا شبه، كذلك نراه في الآخرة بلا مثل ولا شبه".
فهذا الكلام المنسوب إلى من يُنعَت ب "حجّة الإسلام" لا يخرج في معظمه عن كونه رياضة إنشائية فحسب، لا صلة لها بمنطق ولا علم، مع أنهما أساس الفهم في الإسلام، فكيف ببقية الديانات؟ إذن من الخير الجزيل، وهذا أساس الأسس الفكرية الدينية، أن يحل هذا البحث في الاعتبار الأول لدى من ينشدون التعاون الفكري والعلمي بين الديانات الكتابية كيفما كانت نتيجة البحث، والجرأة في معالجة الموضوع، موضوع قدسي كهذا، تولّد الجرأة في معالجة المشاكل الإنسانية المختلفة التي يُعتبَر الدين أهلاً لمعالجتها.
إن الخلافات بين الأديان الكتابية ليست دائماً بالخلافات التي لا يمكن التغلّب عليها، وحتى المسيحية تجدد فيها الموحدون "The Unitarians" منذ أربعة قرون، كما كانوا في أنحاء الجزيرة العربية أيام النبي عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء لا يؤمنون بالتثليث، بل هم والمسلمون سواء في أسس العقيدة، وإن لم يؤمنوا بنبوة محمد  التي هي إحدى شهادتَي الإسلام. ومهما يكن من شيء، فالإسلام هو بمثابة امتداد وتنقيح لكل من الموسوية والعيسوية، والأسس الأدبية المشتركة بين هذه الديانات السماوية غير قليلة، والتعاطف بين أهلها المخلصين لتعاليمها هو واجب إنساني مقدس.
وبعد، فما هي الدواعي التي تجعلنا نهتم بهذا الموضوع؟ ونحمد للبرلمان العالمي للديانات جهوده الشريفة من أجله، أننا نلخص هذه الدواعي ونتائجها فيما يأتي:
أولاً:
الحاجة إلى الفهم المشترك لفلسفة العقيدة الدينية، مبتدئين بعقيدة الإلوهية، إذ ليس من رابط بين الناس أقوى من الفهم المشترك القائم على الثقافة المشتركة، وهذا التجانس في الفهم إلى حدّ محسوس يؤدي بلا ريب إلى ما ينشده الأحرار في كل قطر من خلق إخوَّة عالمية بين البشر فيها الكثير من التعاطف الفكري على الرغم من اختلافات الأديان.
ثانياً:
الحاجة إلى مقاومة التدني الخلقي الناجم عن الاستهتار بالمثالية الدينية، ولهذا الاستهتار أثره الخطير في تكوين، أو سوء تكوين، رجال الأمة، فينهار عرفانهم للواجب، وتنهار معه وطنيتهم ثم إنسانيتهم.
ثالثاً:
الحاجة إلى تدعيم الأسرة، لأنها نقطة الارتكاز في بناء الأمة وفي تقدم الإنسانية، والدين خير معين لذلك. وتدعيم الأسرة لا يكون بالوفاء لها وقتياً أو غالباً، وإنما يكون بالوفاء الدائم لحقوقها الأدبية والمادية معاً
رابعاً:
الحاجة إلى نشر روح التسامح والإحسان العام بغضّ النظر عن الاعتبارات الطائفية أو الجنسية أو الدينية، ولنضرب مثلاً على ذلك ما صنع أستاذ مصري مسلم هو الدكتور محمد حسن الزيات، فإن هذا الأستاذ المصري النزيه الورع ألقى سلسلة من المحاضرات الإسلامية في معهد الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا، وثمة علم أن نفراً كبيراً من الطلاب كان يضطر للبحث عن عمله بغية اكتساب ما يعينه على متابعة الدراسة، فلما منحته الجامعة مبلغ خمسمائة وألف دولار مكافأة له عن خدماته أعاد الدكتور الفاضل هذا المبلغ إلى الجامعة طالباً إليها إنفاقه في مساعدة الطلاب المحتاجين على اختلاف مللهم ونحلهم
خامساً:
الحاجة إلى التآزر لمقاومة الحركات الهدامة كيفما كانت أسماؤها وألوانها، لأن هذه الحركات هي دائماً عدوة الأديان، كما أنها دائماً لا تحسب حساباً لسعادة الإنسان وكرامته، وإن ادّعت أنها تُعنى بسعادة المجموع الذي ينتقل من بؤس إلى بؤس تحت لوائها.
سادساً:
الحاجة إلى تأليف كتلة رشيدة عظيمة من البشر الواعين الناهضين لتقضي على الغفلة والعنجهية، والجمود على هذه البسيطة عن طريق اليقظة الروحية الفكرية بل أن يعيش أغلب الإنسانية عيش السوائم بالرغم من الحضارة التكنولوجية.
إن طبيعة الإسلام كفيلة بهذا جميعه وبأكثر منه، ومن الواجب على المسلمين الغيورين أن يسهموا في هذا الجهد بإخلاص نقي وبحماسة لا تشاب غير ملتفتين إلا لنداء ضمائرهم الحرة ووحي إيمانهم السليم.
osman osman [[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.