أفرد مقالتي هذه للحديث لأخواتي ولبناتي اللائي يعملن بالخدمة المدنية بمرافق الدولة في كافة أرجاء الوطن، وبشكلٍ أخص للمتزوجات منهنّ، فقد جاء بالمادة (44) من لائحة الخدمة المدنية القومية لسنة 2007م، وما جاء في قوانين ولوائح الخدمة المدنية بالولايات، في شأن تخفيض ساعات العمل العادية بمقدار ساعة واحدة في اليوم، وخصّ المرضعات بذلك ولمدة سنتين من تاريخ الولادة. وحسب التجارب الإدارية فإن العاملة المرضعة قد خُيّرت بأن تأخذ هذه الساعة، وعلى أي كيفيةٍ تختارها يتم التعامل معها حضوراً وانصرافاً وفق سياسة الضبط الإداري المعمول بها. ولعل المُشرِّع في لوائح الخدمة حدد(السنتين) في ضوء الآية الكريمة (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ...) 233 البقرة، ولكن برأينا أنه لم يطلع على كل المسائل التي وردت في تفسير هذه الآية. فقد ورد في (الجامع لأحكام القرءان - تفسير القرطبى -) ج3 / 4 الطبعة الأولى 1425 ه 2005م في تفسير هذه الآية، عدة مسائل نذكر منها: (1) لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثَمّ ولد، فالآية إذاً في المطلقات اللائي لهنَّ أولادٌ من أزواجهنّ. (2) قوله: (لمن أراد أن يتم الرضاعة) دليلٌ على أن إرضاع الحولين، ليس حتماً فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، لكنه تحديدٌ لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. (3) قال جمهور المفسرين في هذه الآية: إن هذين الحولين لكل ولد، ورُويَ عن إبن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهرٍ، فإن مكث سبعة أشهرٍ فرضاعه ثلاثة وعشرون شهراً، فإن مكث ثمانية أشهرٍ فرضاعه إثنان وعشرون شهراً، فإن مكث تسعة أشهرٍ فرضاعه أحد وعشرون شهراً لقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) 15 الأحقاف. وعلى هذا تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر. إ.ه. فإذا أخذنا ما جاء في المسألة (3) المتقدم ذكرها، وأن تلك الزوجة المرضعة، غير مطلقة وتعيش مع زوجها، وربطنا بها الحديث عن القيد الزمني الذي حددته لوائح الخدمة بمنح العاملة المرضعة ساعة يومياً للرضاعة، فنجد من ناحيةٍ عمليةٍ بعض المفارقات (وهي كثيرة)، فمثلاً إذا وضعت العاملة (س) مولودها في 1/6/ 2014م، وبحكم اللائحة فإنها تستفيد من ساعة الرضاعة، حتى 31/5/2016 م فإذا افترضنا أن هذه العاملة (س) (ولأي سببٍ) إنقطعت رضاعة مولودها في 31/12/2014م، فهذا يعني أن القيد الزمني باقٍ به (17) شهراً، فهل لها حق الإستمتاع بهذه الساعة يومياً طيلة (17) شهراً، تطبيقاً (حرفياً) لللائحة، على الرغم من إنتفاء سبب المنح (الرضاعة الفعلية)؟ أم يتم تطبيق (روح) اللائحة في هذه الحالة؟ كأن تتعامل العاملة (س) بصدقٍ، وتُخبرُ عن وضعها، إقتداءاً بالحديث الشريف: (من غشنا ليس منا) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، أو العمل بمقتضى الحديث القائل :(إن الله يُحب أن تؤتَى رُخَصَهُ كما يُحب أن تترك معصيته) من رواية أحمد والبزار والطبراني، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم برخصة الله التي رخّصَ لكم فاقبلوها) من رواية النسائي، فقد أوضح أهل العلم، أن قبول المكَلَف لرخصة الله واجبٌ، وهذا حق، فإنه متى لم يقبل الرخصة ردها ولم يرها رخصة، فهذا عدوانٌ منه ومعصية، ذلك أن لائحة الخدمة المدنية تنزل منزلة العُرفِ والذي هو مصدرٌ من مصادر التشريع. فاعلمي أختي/ إبنتي العاملة المرضعة في كل مرفقٍ من مرافق الدولة على امتداد وطني العزيز، أن ما تم منحه لكِ من ساعةٍ للرضاعة يجب أن تتعاملي معه بتقوىً وورعٍ شديدين، سواءً في الحضور والإنصراف وعدم التسيّب، أو في القيد الزمني لمدة الرضاع وعدم أخذه (القيد الزمني) على إطلاقه، وأُذَكِرُكُنّ ما جاء من آيات كريمةٍ وأحاديث شريفةٍ في شأن الورع وترك الشبهات، قال تعالى: (وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم) 15 النور، وقوله: (إن ربك لبالمرصاد) 14 الفجر. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدِينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمى ألا وإن حِمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه، وعن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرةً في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه، وعن الحسن بن علي رضى الله عنهما قال: (حفظتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك) رواه الترمذي، والأحاديث كثيرة. وأهدي لَكُنُّ جميعاً دُرراً من كلام (سيد قطب) (في ظلال القرءان) في شأن التقوى: (ورد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبُي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوكٍ؟ قال بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمٌرتُ واجتهدتُ، قال: فذلك التقوى... فذلك التقوى: حساسية في الضمير، شفافية في الشعور، خشية مستمرة، حذر دائم، تَوَقٍ لأشواك الطريق... طريق الحياة، الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، أشواك المطامع والمطامح، أشواك المخاوف والهواجس، وغيرها وغيرها من الأشواك) إ.ه وبذلك وحده تأكلين أختي/إبنتي العاملة وأسرتك الكريمة رزقاً حلالاً طيباً مباركاً فيه. ولنا حوارٌ إن شاء الله تعالى (إذا مد الله في الآجال) مع المسؤولين والخبراء، حول هذه المادة التي جاءت بلوائح الخدمة المدنية. حاشية: صورة من هذه الرسالة نوجهها لديوان شؤون الخدمة وإلى بروفيسور سوار الدهب أحمد عيسى وبروفيسور خالد سر الختم وأي إختصاصي في المجال، للتفاكر والنقاش لمزيدٍ من إحكام صياغة لوائحنا حتى تتناسب مع التطبيق العملي. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد. والله ولي التوفيق مدير شؤون ماليه وإدارية