شهدت نهاية الأسبوع المُنصرم زيارة مفاجئة لأهم رجلين في إدارة الرئيس المصري حسني مبارك إلى كل من الخرطوم وجوبا. عنصر المفاجأة في الزيارة -كما رصد المراقبون- هي أنّها تأتي بعد نحو 48 ساعة من زيارة وزير الدفاع السوداني عبد الرحيم محمد حسين الذي قدم إلى القاهرة بعد رحلة استشفاء الى المملكة العربية السعودية، حيث التقى الرئيس حسني مبارك وكبار معاونيه وسلّمه رسالة من الرئيس السوداني عمر البشير، لم يُعلن عن محتواها، ولكن الوزير عبد الرحيم خرج بعد اللقاء ليُعلن أن قيام الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب سيتم على الأغلب تأجيله - بحسب رويترز- نظراً لضيق الوقت والتعقيدات العملية واللوجستية التي تكتنف العملية خصوصاً لجهة القضايا الأمنية والحدودية، وقال إنه قدّم شرحاً للرئيس مبارك حول الموقف بمنطقة أبيي وأهمية التوصل إلى حل نهائي بشأنها قبل عملية الاستفتاء، وركز على ضرورة القضاء على بؤر التوتر المحتملة قبل الاستفتاء -وفي إطار الدولة الواحدة- حفاظاً على السلام والاستقرار بالبلاد، لأن عملية الاستفتاء ليست غاية في حد ذاتها، كما قال. وأردف أنه شرح للرئيس مبارك كذلك إستراتيجية الدولة في دارفور وملامح الخطة والترتيبات الجارية بشأنها. حديث عبد الرحيم في القاهرة حول احتمالات تأجيل الاستفتاء يكتسي أهمية خاصة، نظراً للموقع التنفيذي الذي يحتله ولما هو معروف بأنه الأقرب إلى رئيس الجمهورية، بالإضافة الى موقعه الخاص كأحد أركان «انقلاب الإنقاذ 1989» وهذا جميعه يؤهله لأن يكون أحد صنّاع القرار بامتياز.يقودنا هذا إلى أن زيارة الفريق عبد الرحيم إلى القاهرة هي التي حرّكت الإدارة المصرية، ولابد أنها سمعت منه ما جعلها تعجل بذلك التحرك وتدفع بأبي الغيط وزير الخارجية وعمر سليمان وزير ومدير المخابرات المصرية إلى كل من الخرطوم وجوبا، حاملين رسالة من الرئيس مبارك إلى كل من الرئيس البشير والنائب الأول رئيس حكومة الجنوب سلفا كير. وكعادة الوزير أبو الغيط فإنّه ينأى دائماً عن الاسترسال في الحديث أمام وسائل الإعلام، ويلجأ الى التلميح والكلام «المشفّر» أكثر من البوح الصريح. فبعد لقائه الرئيس البشير قال إنه حمل رسالة من الرئيس مبارك الى الرئيس البشير «حيث يُريد الاطمئنان على الأوضاع في السودان وعملية إجراء الاستفتاء على انفصال الجنوب» و«إن السودان يمر بمرحلة صعبة، وقمنا بتسليم رسالة الرئيس مبارك إلى الرئيس البشير بهدف محاولة تخطي التوتر الراهن في علاقة شريكي الحكم في السودان. لكن المفارقة، والغموض الذي يحتاج الى تفسير، هو إعلان السودان، على لسان وزير الخارجية علي كرتي أن الرئيس البشير أبلغ سليمان وأبو الغيط بأن «الخرطوم ملتزمة بإجراء الاستفتاء في موعده»، وأشار إلى أن الجهود المصرية تتضافر مع الجهود السودانية لإيجاد حلول للقضايا العالقة، وأن الوزيرين المصريين «يحملان أفكاراً جادة لتجاوز العقبات التي تهدد إجراء استفتاء جنوب السودان». هذا الغموض الذي يلف التحرّك المصري الأخير، لابد من تفسيره ابتداءً بأنه صادر من الخرطوم، عبر زيارة الوزير عبد الرحيم -كما سبقت الإشارة- ويبقى السؤال ما الذي تستطيع أن تفعله مصر لحلحلة القضايا العالقة خلال الشهرين المتبقيين على موعد الاستفتاء الذي أعلنت المفوضية نهاية الأسبوع أيضاً عن جدوله الزمني من حيث التسجيل والحملة الدعائية والطعون والاقتراع؟ فهناك (20) مشكلة، كما عددها الصادق المهدي في حواره مع الجزيرة ليلة الجمعة ضمن برنامج «المِلَف»، كلها كفيلة بإثارة «حروبات عديدة وليست حرباً واحدة» كما قال. وإذا ما أضفنا ذلك إلى التخوّفات التي أبداها وزير الدّفاع عبد الرحيم في القاهرة ودعوته لتأجيل الاستفتاء المقرر في التاسع من يناير لحين حل القضايا الأمنية والحدودية في إطار الدولة الواحدة، وأن القضية الجوهرية بالنسبة للمسألة بين الشمال والجنوب هي «قضية السلام والأمن والاستقرار» وهذا يتطلب إعداداً جيداً، نجد أن الهدف الأول والأهم من زيارة الوزيرين أبو الغيط وسليمان هو بذل جهد استثنائي من أجل تفادي انفجار الموقف على حدود مصر الجنوبية، وهذا يدخل في صميم الأمن القومي المصري، فهل ستُجنّد مصر مثلاً علاقاتها الأمريكية الراسخة من أجل تليين الموقف الجنوبي تجاه التأجيل؟ التفسير الأرجح للتناقض الظاهر فيما أعلنه كرتي من التزام الخرطوم بإجراء الاستفتاء في موعده المقرر ودعوة الوزير عبد الرحيم إلى التأجيل من أجل الإعداد الجيّد للاستفتاء تفادياً للتوترات التي قد تُثيرها القضايا الأمنية والحدودية، هو أنّ الشريك الأكبر المؤتمر الوطني لا يُريد أن يُحمل من جانب شريكه الأصغر الحركة الشعبية مسؤولية «التأجيل» الذي يعتبره قادة الحركة الشعبية «خطاً أحمر»، وكلّنا يتذّكر تصريحات سلفا كير حول إمكانية لجوء الجنوب إلى إجراء «استفتائه الخاص» في حالة تسبب المؤتمر الوطني في تأجيل الاستفتاء أو إلغائه مثلما نتذّكر جميعاً تصريحات أمين عام الحركة باقان أموم منذ شهور مضت بإمكانية «اللجوء لإعلان استقلال الجنوب من داخل البرلمان» كما فعل السودان لحظة تقرير مصيره أواخر العام 1955. فالموقف الرسمي للمؤتمر الوطني - بغض النظر عن النتائج الوخيمة التي نبّه لها كل من الوزير عبد الرحيم والصادق المهدي-، هو أنه لا مانع لديه من الالتزام بإجراء الاستفتاء في موعده -خصوصاً بالنسبة للجنوب- وهو يستنجد بمصر في هذه اللحظات، علّ وعسى أن تقنع شريكه «الحركة الشعبية» بالموافقة على «تأجيل محدود» من أجل استفتاء مُبرمج ومعدٌ له بشكل جيّد لتفادي عقابيل التوترات والانفجارات التي قد تترتب على استفتاء يفتقر الى التنظيم المضبوط والحيدة والنزاهة. أنباء صحفية، تحدّثت عن تكهنات نسبتها صحيفة «الحياة» اللندنية إلى مصادر لم تُسمّها، بأن الحكومة المصرية طرحت خلال زيارة الوزيرين أبو الغيط وسليمان إلى الخرطوم وجوبا أفكاراً لتجاوز القضايا العالقة المرتبطة بالاستفتاء وتوفير الأجواء المناسبة لقيامه، وذلك بإرجاء الاستفتاء شهوراً لتأمين إجرائه بعيداً عن التوتر وتسوية المسائل الخلافية، وإن القيادة المصرية تسعى لإقناع سلفا كير بذلك، لكن مسؤولاً في الحركة الشعبية استبعد - بحسب «الحياة»- الموافقة على تأجيله لثلاثة أشهر أو ستة، لأن ذلك سيؤدي الى تعطيله نحو عام بسبب ظروف الخريف. وجاءت تصريحات باقان أموم عقب لقاء أبو الغيط وسليمان بسلفا كير لتؤكد إصرار الحركة على قيام الاستفتاء في موعده المُقرر، أي التاسع من يناير المقبل. خلاصة القول، أن قضية الوحدة قد تراجعت الآن، وأصبح الحديث كله ينصب على الاستفتاء على (انفصال) الجنوب، وليس (تقرير المصير) -وحدة أم انفصالاً- وكيف يكون هذا الانفصال سلساً وسلمياً، وليس عدائياً أو حربياً، وسيكون على الشريكين الحاكمين - شمالاً وجنوباً- أن يجنّدا عقولهما ويجندا علاقاتهما من أجل تفادي الحرب والصدام، فلا الشمال يحتمل حرباً جديدة، ولا الجنوب ومواطنه يرغب في أن يستهل عهده الجديد و«دولته المستقلة» بحرب لا تُبقي ولا تذر، ونقول للشريكين «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»!