قلنا بالأمس إن الحركة الشعبية أنتجت خطابين سياسيين متعارضين، خطاب الرئاسة وخطاب الأمانة العامة، وتساءلنا هل يقع ذلك ضمن تكتيك سياسي بتقاسم أدوار أم أن التعارض يجيء ضمن خلافات تنذر بانقسام؟ وقبل الإجابة على هذا التساؤل الذي لا أملك إجابة شافية له، يجدر التأمل في منتجي الخطابين. فالفريق سلفاكير والدكتور رياك مشار يريدان الوصول للأهداف النهائية للاتفاقية حسب نصوصها واستحقاقاتها، دون اللجوء إلى العنف ودون العودة إلى الحرب، والواضح بياناً أنهما يركزان على جنوب السودان أكثر من السودان، وربما يكون الفريق سلفاكير أميل لحسم الصراع سلمياً عن طريق الانفصال السلمي، وهذا ما عبّر عنه صراحة في «حديث الكنيسة»، إذ رمى في ذلك الحديث بسهم من كنانته لكنه اصطاد نفسه بذلك السهم.! الرجلان ينتميان لأكبر قبيلتين ولهما استطاعة وقدرة ويلعبان في مساحات مريحة ولا يخشيان في «الوحدة أو الانفصال» لومة لائم. الملاحظ أن القائد سلفاكير ومشار لا يقعان فريسة الشعارات، وأكاد أجزم أنني لم أسمع أياً منهما يبشّر بأطروحات «السودان الجديد» أو يشرح معالم فكرته أو يكيّف أذواق الجماهير على خلفية الشعار، إنهما مفرغان تماماً من أي حمولة أيديلوجية، بسيطان جداً لكنهما نافذان للغاية!! ملاحظة أخرى تجدر الإشارة إليها هي أن القائدين سلفا ومشار لم تجمعهما أواصر شخصية بقادة المعارضة الشمالية في التجمع الوطني، بل ربما لم ينس رياك مشار موقف التجمع الوطني حياله حين رفض طلبه للانضمام بعد انهيار «اتفاقية السلام من الداخل»، لذا فاللغة بينهما وبين قيادات المعارضة الشمالية غير مبينة، وتعوزها الطلاقة والوجدان الذي يخصّب التعبير عنها. في الضفة الأخرى حيث الأمانة العامة للحركة الشعبية تختلف المناخات، فباقان وياسر يقفان على تحديات فكرية وأيديولوجية وسياسية وتكتيكية، وهما مطالبان بحمل رايات السودان الجديد بكل امتدادات فكرته الغائمة، وهما معنيان بالعمل بجانب قوى المعارضة لرسوخ العلاقة الممتدة من القاهرة ونيروبي وأسمرا، المرفودة بالتفاعلات المشتركة بين الحركة وبين تلك القوى، وترسخت هذه العلاقة بعد تولي باقان أموم الأمانة العامة للتجمع، عقب عودة حزب الأمة ومشاركة مبارك الفاضل في السلطة بموقع سيادي رفيع، نُحي منه لطموحاته الزائدة وغادره حزبه كله تاركاً له عبد الجليل الباشا وبعض أفراد أسرته وكل حسراته الكبرى.! باقان وياسر مطالبان أيضاً بطمأنة الحركة بأن الشارع الشمالي سيلتف حول شعار «السودان الجديد»، وهذا ما يعزز فكرتها القومية وترشحها لقيادة العمل السياسي مستقبلاً، لذا فهما معارضان بحكم الدور المتفق عليه أو غير المتفق عليه، ولا مجال لهما للتقارب مع المؤتمر الوطني، لأن أي تقارب ينهي هذا الدور لذا فمن الطبيعي أن تكون حركتهما مرتبطة بالمعارضة، التي تعثر سريانها بعد اتفاقية نيفاشا. لقد عبّر باقان عن ازدرائه لدولة الجلابة الفاشلة وغادر مجلس الوزراء وأبدى ارتياحاً لعدم مشاركته في الحكومة، متخففاً من كل عبء يربطه بالمؤتمر الوطني وتفرّغ لمعارضة قرارات الرئاسة المتعلقة بقانون الانتخابات والصحافة ونتائج الاستفتاء، ولكن رغم معارضته تمت إجازة هذه القوانين وتم اعتماد نتيجة الاستفتاء، وسجّل باقان بموجب الاعتماد الذي يرفض نتيجته اسمه في دائرة أركويت، التي لا تنتمي معماراً وموقعاً وطقساً لعقيدة «المهمشين»!! لو كنت في موقعي باقان وياسر كنت سأجتهد لتقديم نموذج مشهدي للسودان الجديد، خاصة أن الاتفاقية منحتني جنوب السودان كله ليكون في طاعة فكرتي وإيماءاتي وشجن عقيدتي، كنت سأبني أنموذجاً مصغّراً لتلك الفكرة تجسّد العدالة والتنمية والانفتاح الحر، وكنت سأطلق الطاقات إنتاجاً وإبداعاً لأجتذب كل السودان لهذا الأنموذج، فأضمن اصطفافاً وراء الفكرة، لكن ما يحدث في جنوب السودان يهزم فكرة السودان الجديد من أساسها، فكل ما تابعناه من منجزات هناك تشريع دستوري واحد، ومصنع للبيرة.! فيما لا يزال الجنوب جائعاً ومحترباً وهائماً وغائماً!!! * حاشية: حكمة لها علاقة بالنص السياسي الذي يسعى للنجاح هو الذي يتحدث في كل الأوقات لكل القنوات الفضائية حتى لو كانت رياضية وحتى لو كان في السجن!!!