ان التوجه نحو الوحدة هو أمر إنساني قديم حتى على المستوى العاطفي ناهيك عن المستوى المصلحي، فالأديان الكبرى دعت إلى ذلك وحققت ذلك على ارض الواقع إلى حد ما (المسيحية الإسلام)، بل ان النزوع إلى الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ البشري يحمل في جوفه بذور التوجه نحو الوحدة، بل ان هنالك من كان يحلم بتوحيد العالم نفسه (الاسكندر نابليون ماركس) وهنالك تجارب تصب في هذا الاتجاه مثل عصبة الأمم الغاربة وهيئة الأممالمتحدة الحالية خاصة في توجهاتها الأخيرة. ولا نستبعد هنا التجارب الإقليمية مثل منظومة دول عدم الانحياز والحياد الايجابي، إلى جانب المنظمات القارية في أفريقيا واسيا وأوربا وأمريكا اللاتينية، وفى الغالب كانت التجارب القارية والقومية تتوسل إلى الوحدة عبر التكامل الاقتصادي والتجاري ونرى ذلك في تجربة التكامل الآسيوي (النمور الآسيوية مثلا) وتجربة دول الخليج العربية المتميزة (مجلس التعاون الخليجي) والتجارب العربية الأخرى (السودان ومصر نموذجاً)، وتجارب التكامل الأفريقية العديدة (الكوميسا نموذجا)، وتجربة التكامل في أمريكا اللاتينية وتلك الأوربية (الاتحاد الأوربي)، وغير ذلك من التجارب التكاملية الكثيرة على نطاق العالم، وكل التجارب التى أسلفنا ذكرها تطغي عليها النزعة نحو التوحد والاندماج. ويمكننا ان نمثل على ما ذهبنا إليه بتجربة قطرية وأخرى إقليمية، وندلل على الأولى بالتجربة الماليزية التى نجحت في تجسير الفجوة بين الشرق الماليزي الذى يعد أفقر من الغرب الماليزي، وقد نجحت التجربة بالاعتماد على مبدأ التمييز الايجابي، وكان هذا المبدأ داخل التجربة الأخرى الإقليمية المتمثلة في الاتحاد الأوربي حيث روعي الأخذ بمبدأ التدرج لتقليل الفوارق بين دول أوربا الغربية التى قام على أكتافها الاتحاد الأوربي في مرحلة من المراحل، حيث بدأ تقليل الفوارق تدريجياً بين دول أوربا الغربية الغنية من جانب وبين دول أوربا الشرقية الأفقر منها والتي انضم عدد كبير منها للاتحاد في فترة لاحقة. أما التجارب الانفصالية فقد سقط معظمها لتحل محلها التجارب الوحدوية أو ذات النزوع الوحدوي، فما زالت منظومة دول عدم الانحياز ناشطة حتى الآن على الرغم من تلاشي الحرب الباردة التى كانت ناشبة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وما كان يدور في فلكها والاتحاد السوفياتي السابق والإمبراطورية الشاسعة التى كانت تدور في فلكه والتي تفككت بسبب عوامل كثير ليس من بينها الكفران بالوحدة. ومن جانب آخر لنطل على مشهد أوربا المتصارعة التى كانت تتحارب بلا كلل حتى توجت نشاطها الحربي الدامي بحربين جرت إليهما مستعمراتها وحليفاتها حتى صدق على وصفهما بالحربين العالميتين، ولنطل الآن إلى منظومة الاتحاد الأوربي التى تسير بسرعة فائقة نحو الوحدة الاندماجية التامة بين دول أوربا والتي أصبحت قاب قوسين أو ادني على كافة الأصعدة. وداخل نطاق الاتحاد الأوربي التى تسير بسرعة فائقة نحو الوحدة الاندماجية التامة بين دول أوربا والتي أصبحت قاب قوسين أو أدنى على كافة الأصعدة. وداخل نطاق الاتحاد الأوربي نفسه فلنطل على المشهد الألماني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار جدار برلين فسوف نجد ألمانيا منقسمة إلى دولتين احداهما شرقية خاضعة لنفوذ الإمبراطورية السوفياتية والأخرى غربية خاضعة لنفوذ الإمبراطورية الأمريكية، ومع ذلك كانت جذوة الوحدة متقدة في نفوس أبناء ألمانيا المنقسمة إلى ان نضجت الظروف الموضوعية والذاتية فحمل الألمان معاولهم ليهدموا جدار برلين الذى فرق بينهم لتعود ألمانيا دولة موحدة قوية وذلك في مشهد خلب الباب العالم بأسره. والآن يسير أبناء كوريا المنقسمة إلى دولة جنوبية وأخرى شمالية سيراً حثيثاً نحو توحيد بلادهم مرة أخرى بعد ان لعبت الملابسات الخارجية الدور الأكبر في تقسيم البلاد، ونرى المسيرة تسير الآن نحو الوحدة في الكثير من المظاهر والقطاعات وخاصة في قطاع الشباب. وفى العالم العربي نمثل على ذلك بالوحدة اليمنية حيث كانت اليمن منقسمة إلى دولة جنوبية وأخرى شمالية بفعل عوامل كثيرة من بينها الاستعمار الانجليزي في جنوب البلاد ثم من بعده النفوذ السوفياتي، أما في الشمال فقد كانت تقعده هيمنة من قبل حكم يعود إلى القرون الغابرة إلى ان تفجرت الثورة ومن بعد ذلك سار الشطران بقوة وصدق إلى ان تكللت الجهود بالوحدة التى يعيشها ابناء اليمن حالياً. ولا يخفى ان في السودان عدد من اؤلئك الذين ينادون بانفصال الجنوب حتى من أبناء الشمال نفسه، إلا أننا يمكن ان نسمع صوت الوحدة بوضوح فى شطرى البلاد خاصة بعد اتفاقية السلام الشامل، وإذا كان من أهم العوامل لدى الانفصاليين الجنوبيين أصحاب الصوت العالي مقارنة بأصحاب الصوت الخافت والخجول من جانب الانفصاليين الشماليين، وهو العامل المتمثل في اختلال ميزان التنمية، فان ذلك لا يتحمله الشمال وحده وإنما بدأ التأسيس لذلك منذ عام 1922م عبر قانون المناطق المقفولة الذى سلب الشمال والجنوب معاً من فرصة الاستفادة منهما، واستعادة ميزان التنمية ليس بالأمر العسير الذى يستوجب انشطار البلاد إلى دولتين ستكونا ضعيفتين في ظل الإطماع الخارجية إذا ما حدث ذلك لا قدر الله فوحدة السودان أصبحت الآن معركة وطن مما يجعلنا نطالب الجميع ان يوقعوا بكل وطنية وتجرد على دفتر الوحدة .. والله من وراء القصد وهو المستعان.