في المقالين السابقين للرد على الصديق فيلو ثاوس فرج قمص كنيسة الشهيدين بالخرطوم قلنا إن إسلام القرآن هو إسلام الأنبياء والمرسلين، وإسلام الكتاب المقصود عند القمص ليس هو الكتاب المقصود عند المسلمين، إنه الكتاب الذي يحمل الوحي الصادق، من الكتاب اللوح المحفوظ، من الكتاب عند أهل الكتاب الأول بلغته الأصلية المقصودة حالياً سواء في العهد القديم أو العهد الجديد والتحدي قائم اليوم من المسلمين لأهل الكتاب المقدس (هذا) أن يخرجوا العهدين باللغة الأصلية التي كتب بها، ولم يغن عن ذلك مخطوطات وادي قمران التي وإن اثبتت ما نرمي إليه من فقدان الأصل إلا أنها هي أيضاً من رصد طائفة مجهولة خالفت معاصريها - قبل أكثر من ألفي سنة - في الأصول العقدية والممارسات الشعائرية فأين ذلك من كتاب القرآن الذي نقل الذي نقل بالتواتر من نصه الأصلي؟ في هذا المقال والمقال التالي سنوضح معنى الإسلام وعلاقته بإسلام الأنبياء الكرام من لدن سيدنا إبراهيم الخليل - عليه السلام - وإلى آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى - عليه السلام - وإلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. إن كلمة إسلام في معناها اللغوي البسيط هو الاستسلام قال صاحب مختار الصحاح: السلم (بفتحتين) هو الاستسلام وأسلم من الإسلام، والتسليم بذل الرصا بالحكم، والسلم (بالكسر) وقرأ أبو عمرو «أدخلوا في السلم كافة وذهب بمعناها إلى الإسلام» وقال صاحب القاموس المحيط «التسليم الرضا والسلام، وأسلم انقاد وصار مسلماً هذه المعاني اللغوية نذهب بها إلى المعنى الاصطلحي وهو أن الإسلام بمعناه العام هو الاستسلام لأمر الله تعالى بعد توحيده والإقرار بربوبيته وإلوهيته وهيمنته على مخلوقاته». وبهذا المفهوم يكون الإسلام هو إسلام كل الأنبياء والمرسلين والمؤمنين من أتباعهم ولا يكون مؤمناً بالله تعالى بألوهيته إلا من انقاد واستسلم لأمره ونهيه حسبما جاء في الرسالة المعينة لكل زمان ومكان، ومن خالف أو عائد أو حرف خرج عن الدين لأن الدين هو الطاعة والانقياد ومعناه هذا قريب من الاستسلام كما جاء في المصباح المنير للفيومي وفي مختار الصحاح الدين الطاعة، وفي الحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت). أما الإسلام بمعناه الخاص فهو الدين الذي أنزل على محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وقامت قواعده على أركان الإسلام الخمس وعلى ركان الإيمان الستة وعلى الإحسان في مراقبة الله تعالى من مقام أن تعبد الله كأنك تراه (راجع الصحيحين والأربعين النووية). وبالقطع لا يتعارض هذا المفهوم الخاص مع المفهوم العام الذي هو الانقياد والطاعة لأمر الله تعالى على من أمر لكل رسالة مخصوصة لقوم مخصوصين ظروف الزمان والمكان إذ أن أساس الدين واحد لايمان الجميع بالاله الواحد لا شريك له ولا ند ولا أقنوم! واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في أفعاله.. يقول القمص والقرآن أخذ الإسلام أسماً ومعنى من الكتاب ويستشهد بالآيات القرآنية منها قوله سبحانه (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) «الحج الآية78» كنت والله أرغب في أن أجد في الكتاب الذي عناه القمص هذا المعني في كتابهم المقدس لكن على كثرة اطلاعي لم أعثر على أي نص في العهد القديم أو الجديد، وإذا وجد هذا النص يا حضرة القمص- يرتفع الخلاف تماماً وما لكم حينئذ إلا الاستسلام لأمر الله تعالى لأنك عبرت فقلت في معنى الآية أي من قبل القرآن في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن والضمير لله ويدل عليه أنه قرئ الله سماكم لإبراهيم واستشهدت بالمفسر البيضاوي، هذا نص كلامك فأين الواقع من هذا عندكم؟ نعم الله تعالى منذ إبراهيم - عليه السلام - يسمى المؤمنين بالتوحيد الكتابي المنزل مسلمين فورث القرآن كما قلت إسلام الكتاب - وأوكد الكتاب المنزل - اسماً ومعنى وليس الكتاب الذي لا يوجد له أصل في لغته الأصلية!! وفيما سبق بينا أن مفهوم الكتاب الذي اعتمد عليه ليس مفهوماً واحداً بحيث يكون هو الكتاب المقدس عند النصارى، وإنما للكتاب دلالات أربع بيناها في الحلقات الماضيج، كما بيتنا أن مفهوم الإسلام ذو معنى عام وهو الاستسلام لأمر الله حقاً ومفهوم خاص هو الدين الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وهنا أود أن أبين تفرد الدين الذي جاء به الرسول الخاتم للأنبياء والمرسلين بأنه دين الإقرار بألوهية الله الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوءاً أحد، هو الدين الذي اعترف بالرسالات السابقة وبالأنبياء أجمعين على أن يكون دينهم هو الوحي الرباني الخالص، الوحي الذي لم تدخله شائبة تحريف أو تبديل أو تغيير والدليل على ذلك الآيات القرآنية التي استشهد بها حضرة القمص وقد جاء فيها (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) .. «الشورى-الآية13» نعم الأنبياء أقروا بالإسلام وقالوا إنا مسلمون والآيات في هذا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار في كل القرآن الكريم، لكن هل أقر اتباعهم في زماننا هذا واتبعوا تلك العقيدة المبنية على الاستسلام الكامل لأمر الله تعالى دون الاستدراك عليه أو محاولة نسبة أقوال إليه لم يقل بها؟ أم أن الأمر كما جاء في القرآن الكريم (ولئن اتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك لمن الظالمين) «البقرة - الآية145» إننا نعترف لأهلل الفضل بفضلهم هذا الفضل اثبته الله تعالى في القرآن للمنصفين من أهل الكتاب فقال سبحانه (ليسو ا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) آل عمران الآية113» أما الآخرون فهم الذين يقولون و(وقالت طائفة من أهل الكتاب امنوا بالذي أنزل علي الذين آمنوا وجه النهار وأكفروا آخره لعلهم يرجعون٭ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم٭يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم٭ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) «آل عمران72 - 75». يقول القمص «فالمسلمون موجودون قبل محمد - هكذا - وهو يؤمر بأن ينضم إليهم ويتلوا معهم القرآن... فالإسلام من نوح إلى محمد واحد وهو إسلام الكتاب» مرة أخرى نتساءل أي كتاب؟ هل هو الكتاب الذي جعل لعيسى - عليه السلام - آباء وسلسلة نسب كما جاء في إنجيلي متى ولوقا وإنجيل متى جعل المسيح عيسى - عليه السلام - أبناء ليوسف النجار وجعل له من الاجداد واحداً وأربعين من سيدنا إبراهيم إلى يوسف النجار. أما انجيل لوقا فوافق أن يوسف النجار خطيب مريم - عليه السلام - إلى يوسف النجار هذا خمسة وجداً فأي الاثنين نصدق الحواري متى أو لوقا؟ وهل ينسف هذا النسب الموجود في انجيلين نسبة مولودية عيسى لله تعالى وينفي عذرية مريم العذراء البتول؟ إن الأمر لجد عجب في هذا الكتاب المقدس عندهم!! (راجع متى الإصحاح الأول).. نعم نوح.. عليه السلم قال بقول القرآن (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين٭ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) «يونس-الاية72» وإبراهيم - عليه السلام - قال بذات القول ومعه ابنه اسماعيل - عليه السلام - (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) «البقرة - الأية 128» ويستمر السياق بعد هذه الآية ليدخل كل أبناء وأحفاد إبراهيم واسحاق ويعقوب في الإسلام بالمعنى العام (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون٭ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون)«البقرة: 132 - 133». في خلاصة هذه المقالات كنت أود أن يعترف سيادة القمص بأن إسلام القرآن هو إسلام الكتاب الأصيل كما قال في خاتمة مقاله وما إسلام القرآن سوى إسلام الكتاب الذي شرعه الله للعرب أقول ليس للعرب وإنما للناس كافة والأدلة على ذلك لا تحصى من القرآن الكريم ومن الممارسة ومن الواقع العلمي.. قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)«سبأ - الآية28» وقال سبحانه (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)«البقرة الآية119» كما كنت أود أن تجري مقارنة بين ما ورد في محتوى الإسلام في القرآن الكريم وما ورد في الكتاب المقدس (الحالي) هل في الكتاب المقدس (بعهدية القديم والجديد) فيه إشارة إلى الإسلام بالمعني العام أو حتى الخاص..؟ وربما عدنا لهذه المقارنة. رئيس هيئة علماء السودان استاذ كرسي الدراسات الإسلامية ومقارنة الأديان في الجامعات السودانية