راي : زين العابدين صالح عبدالرحمن يلعب المثقفون و ألمفكرون دورا مهما و جوهريا في المجتمعات التي تتطلع للنهضة، و قد لعبت النخبة التي كانت تشتغل بالفكر دورا كبيرا في عملية التنوير في أوروبا، عندما أرادت شعوبها مغادرة قرون الظلام،حيث صعدت الفلسفة التجريبية في علوم الاقتصاد و الأحياء و الفيزياء و الكيمياء، ثم زحف التنوير لساحات العديد من العلوم الاجتماعية و الفنون و الثقافة و غيرها، بهدف خلق وعي جديد يتجاوز سلطة الكنيسة، فكانت كتابات فولتير و جان جاك روسو و فرنسيس بيكون و ديكارت و إيمانويل كانت و نيوتين و غيرهم، و تهدمت طبقة الإقطاع و جاءت الرأسمالية تحمل قيما جديدة، و في السودان كان من المفترض أن تلعب النخبة التي تشتغل بالفكر دورا حيويا و فاعلا في نهضة البلاد و لكن هذا الدور شابه شيئا من التراخي، الأمر الذي عطل دوره في المجتمع، مما أدي إلي الأزمات التي تشهدها البلاد منذ الاستقلال حتي اليوم. و في مشروع « الإبداع الفكري في مشروع النهضة السوداني»، نحاول أن نتتبع بروز أعلام سودانية جديدة اتخذت طريق الفكر طريقا لمساراتها المعرفية، و هي نخبة لا تمثل مدرسة فكرية واحدة، إنما تتعدد مدارسها و مرجعياتها الفكرية، و لكنها في ذات الوقت لديها الاستعداد لقبول الآخر، و الحوار معه، للوصول لمقاربات تمهد الطريق من أجل الوصول لتفاهمات، تخلق أرضية مقبولة للجميع، من أجل التراضي الوطني، و هذا الاستعداد الفكري و النفسي يعد نقطة تحول في العقلية السودانية، و هي جديرة بالاحترام و التقدير، و هؤلاء النخب لا يوقفهم الأرث التاريخي السياسي في الصراعات و النزاعات، و الذي يعد حائلا بينهم و بين تقديم مبادرات فكرية تحاول معالجة أزمات البلاد المختلفة، لذلك يجب علينا تسليط الضو عليهم. إن محاولة الكشف عن التيارات الفكرية الجديدة الناهضة في المجتمع، ليس الهدف منها محاكمتها أو مساءلتها، أنما تسليط الضوء عليها و إيجاد مساحات لكي تقدم رؤيتها حول مشروع النهضة السوداني، و كما يقول الفيلسوف الألماني هابرماس « صاحب النظرية النقدية» إن الوعي و عمليات التغيير الثقافي و الاجتماعي و السياسي في المجتمعات، و حتى ترسيخ و تعميق مبادئ الحرية لا تتم بالعقل فقط، أنما تتم بصورة متكاملة من خلال عمليات الحوار التي تجري بين النخب، أو في قاعات الدرس، و حتي بين الأفراد و الجماعات، و ما سماها بالنظرية التواصلية» هي التي تنمي الوعي. و نحن في الساحة السياسية السودانية، و غيرها من الساحات الهادفة لعملية البناء و التوعية و البحث، نفتقد للحوارات الفكرية وفق مناهج نقدية تساعد علي عملية التغيير في المجتمع بالصورة المقبولة للجميع، و ما استمرار الأزمة السياسية في البلاد منذ الاستقلال جتى اليوم، إلا لغياب دور الفكر في عملية التغيير و معالجة الأزمات.الأمر الذي أدي لتسييد الخطاب السياسي علي الساحة السياسية و الذي عجز في أن يقدم حلولا للمشكلات، و ما يقدمه الأن عبارة عن مسكنات وقتية، سرعان ما تزول، و ترجع المشكل بصورة اعمق مما كانت عليه. السؤال لماذا الإهتمام بالفكر؟ لآن من صميم عمل النخبة التي تشتغل بالفكر، هو إنتاج أفكار جديدة تساعدة علي قراءة الواقع بصورة جديدة و مغايرة، و تطرح تصورات جديدة، و استنتاجات جديدة، إلي جانب إنها تنتج أدواتها الجديدة المغايرة، تساعد علي عملية التغيير و التحليل للواقع و معرفة المكنزمات التي تسبب أزماته، وفق مناهج جديدة، تخرج المجتمع من أزمته، و تعيد بناءه علي أسس جديدة مقبولة للكل، لأن التصورات الجديدة سوف تطرح أسئلة جديدة، يشارك في الإجابة عليها، كل المجتمع من خلال القوي الفاعلة و الحية فيه. و إذا كان التركيز علي مصطلح المفكر و منتج الأفكار في هذا المبحث، نجد إن إدورد سعيد أطلق عليه المثقف، و قسمه إلي نوعين محترف و هاوي، إلا أنه يعتقد إن المثقف الهاوي هو الأكثر ريديكالية لأنه القادر علي إثارة التساءلات و القضايا الخلافية، و كسر حالة الجمود الفكري في المجتمع، و أيضا يرفض الأفكار الجاهزة. و هو أيضا مثقف جان بول سارتر و المثقف العضوي لانطوني غرامشي، و هذا الذي نحاول تسليط الضوء عليه و استنهاضه، من خلال تقديم شخصيات جديدة تعمل في مجال الفكر، وتطرح كل القضايا علي موائد الحوار، و هذه هي الساحة التي لا يستطيع الأقتراب منها إلا الذين بالفعل يعملون في حقل الفكر و المعرفة. إن ساحة الفكر و الحوارات الفكرية التي تهدف لتعبيد الطريق لمشروع النهضة السوداني، لا يلجها إلا أصحاب المشاريع المعرفية التي تستخدم المناهج النقدية، و هي ساحة تختلف عن الساحة السياسية في نظرتها للقضايا و التعاطي معها بإختلاف المعطيات، و إختلاف الأدوات، و ليس ذلك إشارة لنخبوية الفكر و إنعزاله عن المجتمع، بل لدوره الفاعل و الإيجابي في المجتمع، من خلال سبر غور المشاكل و تشخيصها و طرح الأراء و تقديم الاستنتاجات، و هي كلها تفتح مجالات للحوار الفكري بين المثقفين و النخب، بهدف خلق الوع الجماهيري و الوعي لطرق التفكير في العلاج. إن الملاحظ الأن في الساحة السياسية و الثقافية و الفكرية في السودان، غياب دور المفكر، و لكن الأزمة نفسها و الجدل الدائر إن كان بين الحكومة و المعارضة، أو لغيابه بالصورة الفاعلة، استطاع أن يخلق حيوية فكرية تنفخ و تضخ الاكسجين في جسد الأمة، و تؤدي إلي التفأل، حيث بدأت تبرز أسماء جديدة في مجال الفكر و تقدم أطروحات فكرية، و تجترح القضايا، و تعيد قراءة التراث بصورة جديدة، هذه النماذج الطيبة لا تتركز في نخبة واحدة ذات مرجعية واحدة، أنما هي نخب تمثل العديد من تيارات الفكر المختلفة، و يجب علينا تقديمهم للساحة و إبراز إنتاجهم، لأن هؤلاء هم الذي سوف يعبدون طريق الحوار و يفتحون مسارات جديدة له. إن أهمية الفكر في المجتمع، هو الأداة الفاعلة لعلاج الأزمات و عملية التغيير و إنتاج الواقع السياسي بصورة جديدة، و الذي يشكل أرضية الوفاق الوطني، و سوف نتواصل من خلال المجهود الفكري لكي نظهر ملامح مشروع النهضة السوداني، و هو المشروع الذي يجب أن تشارك فيه كل الأفكار بمدارسها المختلفة، ونسأل الله التوفيق. صحفي وخبير اعلامي باستراليا واحد كتاب جريدة المهاجر