تناولت الصحف الحديث الذي أدلى به الأستاذ علي محمود وزير المالية والاقتصاد الوطني بصحيفة الشرق الأوسط بصورة فيها الكثير من السخرية واختزلت ذلك الحوار الكبير في جزئية بسيطة جاعلة منها قضية وفي الوقت نفسه أغفلت بقية الحوار الذي تناول قضايا السودان الاقتصادية بالتحليل والتشريح وفي الوقت ذاته حولت مرامي الوزير حول انتهاج سياسة التقشف كاستعداد لمآلات الاستفتاء.. فالوزير كان يقصد اتباع سياسة مالية أكثر انضباطاً وترشيداً من أجل مواجهة الوضع المالي الذي يترتب على استفتاء الجنوب الذي ربما يتمخض عنه وضع مالي جديد إذا ما اختار الجنوب الانفصال وأما ما ذكره الوزير تحديداً حول تركيز المواطن السوداني على استخدام (الكسرة) بالرجوع لثقافته وموروثه وكذلك تمزيق فاتورة الدقيق التي تكلف الخزانة بل أصبحت عبئاً وخصماً على الصرف على التنمية وفي ذات الوقت ارتفاع اسعار القمح عالمياً بينما السودان هذا العام سيحقق فائضاً في إنتاج الذرة التي هي الغذاء الرئيسي لشعب السودان.. فكان على الصحف أن تركز على القيمة الاقتصادية لحديث الوزير حول استخدام (الكسرة) التي بات جيل لا يعرفها بل هناك أسر كبيرة لا تملك أدوات أو معدات تصنيعها فإن دعوة السيد الوزير لاتباع نمط غذائى محلي يوفر على الخزانة عبء استيراد القمح أو الدقيق.. فالتوجيهات الاقتصادية لا يمكن افراغها من محتواها الاجتماعي إذ أن سياسة اقتصادية تتطلب استعداداً اجتماعياً يتمثل على أقل تقدير في ترشيد الاستهلاك وتطويعه بما يتماشى مع السياسة الاقتصادية المستجدة والتي تفرضها ظروف كحالة الاستفتاء فيجب على الصحافة أن تتناول مثل هذه المسائل في سياقها الاقتصادي لأن الوزير عندما أورد ذلك الحديث كان يتبنى مدى جاهزيته لمواجهة الآثار الاقتصادية المترتبة على الاستفتاء والتي ربما تجعل مساهمة عائدات النفط بصورة أقل والتي تستدعي مثل هذه الاستعدادات والسياسات وتجارب الدول من حولنا متنوعة ومثال كوريا الجنوبية في التضحية من أجل بناء الأوطان واضح لكل متابع.الحصول على السعرات الحرارية ليس عبر الرفاه فلا بد أن نفرق بين ما هو ضروري وما هو كمالي أو سلع رفاه لأن الوضع الذي يعيشه السودان يتطلب توجيه مدخراته وعائد موارده من أجل دعم الوحدات الانتاجية وتطوير الموارد وليس دعم الاستهلاك وتغيير نمط الحياة وإهدار الموارد في تمويل حياة مزيفة تقوم على الاستهلاك.. فشعب السودان اصبح شعباً مستهلكاً بصورة مخيفة بدءاً من الخدمة في البيوت وتوظيف موارد كبيرة لتمويل أنشطة اجتماعية غير ضرورية ولها أثرها على مجمل الاقتصاد السوداني (الاتصالات - ورفاهية المستهلك بالأسواق) فلعل الأثر الأكبر لاستشراء ثقافة الاستهلاك هو خروج النقد واستخدامه خارج النظام المصرفي.. ما يثير الدهشة والعجب هو فهم دعوة الوزير الحقة خارج سياقها فلا ينكر أحد أن هناك وضعاً اقتصادياً ومالياً ستتضح معالمه بعد الاستفتاء ويستدعي مثل هذه السياسات وأكثر.. وفوق ذلك الحوار كان كبيراً وفيه الكثير ونعتقد أنه كان واضحاً فيما ينتهجه من سياسة لمواجهة أي صعوبات قد تنجم من مضاعفات الاستفتاء سواءً أكانت سلبية أو ايجابية فالرجل عمل من قبل في وزارة المالية ويتحدث حديث الخبير الملم بدقائق الأمور المالية في هذا البلد فإن الأماني والتمويه لا يحلان مشاكل السودان الاقتصادية بل الشفافية والوضوح حتى نعرف حجم مشكلتنا ومن ثم نستعد لحلها فلقد حدد الوزير علل الاقتصاد السوداني من قبل في حوار مع صحيفة الرأي العام عبر توجيه ثلاث رسائل اولها الصرف على الاستفتاء وتداعياته وتأثيره على صادرات السودان التي يمثل النفط رقماً كبيراً فيها وفي الوقت نفسه المخاوف الكبيرة من استمرار النزاع المسلح في دارفور وما له من كلفة وكما أسلفنا ترشيد الاستهلاك بالصورة التي تناسب حياة الأسر ووضعها الاقتصادي وواجباتها تجاه الوطن فنحن نرى أن الهجوم على الوزير والنيل منه هو اجهاض لمشروع المواطن المتكافئ مع حاجاته وواجباته فالأمجاد تبنى بالعزف وبالاتزان في الاستهلاك واحياناً كثيرة بالدماء.. أمانة جاتكم يا أهل الصحف لم تجدوا في زيارة الوزير إلا عواسة الكسرة أين المشرقات من الأمور!!! المدير المالي والإداري - الحج والعمرة