التمساح هو ساكن النيل الأشهر، والرمز الأكثر إثارة في كرامات الصوفية بالسودان، لأنه حيوان فريد يشبه الحالة السودانية في انسجامها وتناقضها.. فالتمساح يحمل متناقضات التوحش والقوة، كما أنه مصدر للمسك والتطبيب، وغالبية شعوب السودان تتعامل معه كروح خفية، تُحارَب بالطلاسم والأسرار.. فمثلاً، في عهد الحكم الثنائي أصدر اللورد كتشنر في بداية القرن العشرين توجيهاً يمنع اصطياد التماسيح من النيل ربما لحماية البيئة الطبيعية لكنه تخصيصه منع صيد التماسيح قد كان نابعاً من علمه بوجود معتقدات في التماسيح كأرواح.. والمتتبع للسرديات القديمة، يلحظ تداول الألسن لحكايات من أن التماسيح كانت، تتقمص (روح السحّار).. والتمساح هو رمز للخطر والضرر، الى جانب أنه لدى الصوفية، بمثابة وسيط في كثير من الغارات التى تقع بين الأولياء.. وبالنظر الى وعورة البيئة النيلية، خاصة في نواحي النيل الأزرق ونهر النيل، فقد كان الناس يلوذون بالمشايخ، طلباً للحماية من خطرها.. وممّا يحكيه ود ضيف الله في هذا الشأن، أن سلطان الفونج، لجأ إلى الشيخ مكي الدقلاشي، عندما اختطف تمساح حِصانه.. يقول ود ضيف الله، إن الشيخ مكي الدقلاشي، جاء الى شاطيء النيل، و«غطس في البحر وقلع في وقته، جميع التماسيح قلعت ميتة».. وقد كان شاطئ النيل موحشاً، ولم يزل كذلك، في جهات كثيرة لم تدخل الميكنة عليها، وليس بين أيدي الناس في تلك الشطوط الممتدة، سوى أدواتهم البدائية في التعامل مع النيل بجنادله وصخوره، و ب «أسراره وساكنيه»..! فإلى عهد قريب، كان خطر التماسيح بالغاً على سكان الشواطئ.. وهناك كرامة شهيرة، خلدها المادح حاج الماحي، في قصيدة (التمساح)، وهي مسجّلة في الإذاعة، تحت عنوان (يارحمن أرحم بي جُدَكْ)،، فحواها أن الأهالي في مناطق الشايقية، حجَّر على حياتهم تمساح متوحش، كان يتلقّف مواشيهم ويصطاد فرائسه منهم، فأخافهم وقطع صلاتهم الحميمة بالنهر.. فجاء حاج الماحي، وأنشد تلك القصيدة، التي يتوسل فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبمشايخ التصوف داخل وخارج السودان... يقول الأستاذ قرشي محمد حسن، رحمة الله عليه، في كتابه:«مع شعراء المدائح»، صفحة 34 ،، أنه وبعد إكمال حاج الماحي للقصيدة، «وُجِد التمساح ميتاً، وعليه أثر طعناتٍ، بعدد من ذكر أسماءهم من الصالحين»..وهذا بالطبع مشهد حاضر في ذهن الصوفية عموماً ولدى صوفية السودان على نحو خاص،، ذاك المشهد هو التوسُّل بالأولياء والصالحين، وهو مشهد لم يتعهده صوفية الماضي فحسب، بل صوفية الحاضر كذلك، كما جاء على لسان الشيخ البرعي في قصيدة «مصر المؤمَّنة»، والتي يتوسل فيها بأولياء مصر طلباً للشفاء.. ويحكي الشيخ البرعي عن تجربته الروحية هنا قائلاً : «عندما كشف الأطباء عن المرض للمرة الثانية، لم يجدوا شيئاً مكان الحصوة... وقيل لي، أتذكر كل هذا العدد من الأولياء، وتحتاج إلى العملية؟..«أنظر صحيفة أخبار اليوم، بتاريخ 5/5/0002م.. وليس مقصدنا من هذا التثبيت، الانتصار لفريق المؤمنين بالكرامة، ولا دحض مادية المنكرين لها، إنما الشاهد هنا، هو التأكيد على أن الوعي العام للسودانيين يتشكل من هذه البيئة... كما ينبغي التأكيد هنا، على أن تفسير الكرامة كتفكير رغبوي، لا ينفي إمكانية حدوث الخرق للعادة، إذ ليس بوسع أحد إنكار حصاد التجربة الذاتية.. فمن الممكن، تأويل التمساح الذي خلّده حاج الماحي في المديح، على أن «رمز تسلطي» يشير إلى عهد التركية، وأن الشاعر أراد أن يبث، تحت تلك الإشارات، سخطه وتشفيه من النظام السياسي، فجعل من تلك القصيدة حديثاً في الممنوع.. وعلى كلٍ، سواء فُسِّرت الكرامة في بعدها الروحاني أو التاريخي، فإن نصوصها، تبدو كمفاتيح ولوجٍ، نحو دهاليز التراث..