الحديث عن الحب بأنواعه، ذو سعة، ومذاكرة شؤونه لا تبلى ولا تمل؛ ولكني تذكرت في هذه الأيام (الفلنتاينية) التي يعيش أدعياء الحب ذكرى أبطالها، تذكرت ما جرى بين جميل بن معمر وبثينة؛ فيما قبل حب عصر التقنية وتقدم العلم وعيد الحب، حينما اختلس من الزمان جلسة مع محبوبته بثينة؛ تلك التي شغفته حباً، وملكت عليه أقطار قلبه ومشاعره، فقد جلسا والليل حالك بعد أن تسللت هي إليه خوفاً من أهلها، وقد كان أبوها وأخوها يراقبان حركاتها وسكناتها في سرية تامة في تلك الليلة؛ عندما أيقنا أن لقاءً ما سيكون مع جميلها، فتواريا خلف سيفيهما يملء صدريهما الشر، وأخذا ينظران في حذر ويسمعان في صمت؛ هذا الأنس المنفرد في تلك الليلة الظلماء، يقول جميل مناجياً معشوقته: لقد بلغ مني الحب يا بثينة ما بلغ وها نحن بلا رقيب؛ فهلا سمحت لي بأن أقبلك؟ فترد عليه: يا جميل لا تذكر مثل هذا الحديث حتى لا أسأل عنك ولا أراك أخرى.. فينتصب جميل ويقول لها: والذي خلقنا لو أنك لبيت طلبي لقطعت رأسك بسيفي هذا، فينظر الأب لابنه ويأذن له بالانصراف فقد أيقنا أن العفاف لا ينفك حارس هذا الحب. كذلك تذكرت قصة قرأتها لزينب ونصيب، عندما أنشد منشد بجوار زينب وهي في الحج: لزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل لا تملينا فما ملك القلب فقالت لمنشده هذا: أتعرف من القائل؟ قالت: أتعرف من زينب هذه؟ قال: لا، قالت: أنا زينبه، قال حياك الله وحباك، قالت: أما والله إن اليوم موعده، فقد وعدني العام الماضي في هذا المكان، فلك ألا تبرح حتى تراه، فأقبل نصيب فسلم ثم جلس قريباً منها، فطلبت منه أن ينشدها، قال الرجل فقلت في نفسي: محبان طال الفراق بينهما فلا بد أن يكون لهما حاجة خاصة، فقمت إلى بعيري أعتزم الرحيل، فقال نصيب: على رسلك إني معك، فجلست حتى نهض فسرنا وتسامرنا فقال لي: أقلت في نفسك كذا وكذا؟.. قلت: نعم ، قال نصيب: ورب هذا البيت منذ أن أحببتها ما جلست منها مكاناً أقرب من مجلسي هذا، فقال الرجل والله إنها لعفة في المحبة. وقد حكى لي أحدهم قصة حبه الذي قتله بيده في عصرنا هذا فقال، دفنته بعد أن حفرت له بيدي ولم أحفل بابتسامته الرقيقة، من مداعبته البريئة فقد دفنته حياً رغم جماله وكماله وسؤاله: ما ذنبي؟ وقد كان يملأ نفسي سروراً وجمالاً وألواناً زاهية، ورغم ذلك قتلته بمديتي وهو يبكي؛ ولكنه يتمتم بكلمات أدركت منها: «ما أقساكم أيها البشر تقتلون سعادتكم بأيديكم فما أظلمكم لأنفسكم بأنفسكم، وتظلون بقية عمركم تبحثون عنها، تحيلون حياتكم إلى شقاء بأيديكم، فما أغربكم!!»، ثم أهلت التراب عليه ورجعت مدعياً الانتصار والسعادة، ولما أن صحوت من غفلتي أخذت الدموع تبلل كل مساحات نفسي، والحزن يعتصر أحاسيسي والألم يقرح قلبي، وأخذت العيون تبحث عن روائع الجمال التي كانت في دنياي فأين الفرح والأمل.. أين رونق الحياة.. أين جمال الطبيعة.. وحب الآخرين.. أين الخير.. أين التفاؤل.. أين جمال القمر.. ومنظر الغيوم.. وحلاوة المطر.. أين دغدغة الخيال ونشوة الروح.. وإشراق الوجوه.. أين نشاط الفكر.. ورياضة العواطف.. أين الصحة.. أين الحياة كلها؟ لقد مات كل شيء وأنا القاتل لكل شيء فإنها كلها أشياء الحب الصادق العفيف؛ ولكن قتلته بيدي في لحظة تهور فليتني كنت عاقلاً لحظة الانفراد، أو ليتنا لم ننفرد، وقد صدق جبران خليل جبران وهو يقول حكمته شعراً: والحب إن قادت الأجسام موكبه إلى فراش من الأغراض ينتحر