تفجر نبع التصوف على أساس من المعرفة المتداولة في البيئة الاجتماعية والروحية، فلا غرو أن نجد في لغة الصوفية، الكثير من فنون الحكماء ومصطلحاتهم، كما في هذا التشطير، الذي يعود الى زمان الفونج:» أكْرِم بيوم الاربعاء زيارةً لك، إنه عندي كألف خميسِ / كل اتصالات السعيد سعيدة، بمثابة التثليث والتسديسِ (..التثليث والتسديس من استخدامات الحكماء للحروف والأرقام، وهي من المعارف التي يمارسها أكابر الصوفية الى يومنا هذا.. والتشابه قائم لا ينفك، بين الصوفي المسلم والصوفي المسيحي، من واقع أن الذهن السوداني قد تأثر بتراث المسيحية من مصدريها الإنجيلي والقرآني، فمثلاً ، هناك شبه الى حد التطابق بين مُعجزة نقل جبل المقطم، في المسيحية، «أنظر: القس لوقا الانطواني، معجزة نقل جبل المقطم، ط1، دارالرجاء، مصر الجديدة 1995، ص33»،، وكرامة الشيخ محمد قيلي حفيد الشيخ حبيب نسّي، التي أوردها ود ضيف الله هكذا :« كان وقت قيام الحالة عليه، إذا سافر يتبعه أهل البلد الذي يمر عليه حتى مواشيهم»..! إذن، هناك إستلاف أو اقتباس للكرامة من إرث المسيحية، يدلل على حالة التسامح السائدة حينها.. ولقد تسودنت الكثير من نصوص الإنجيل على يد الصوفية دون توجس فقهي، فنُسبت الكثير من معجزات السيد المسيح ككرامات للأولياء منها، مشهد إحياء الشيخ حسن ود حسونة ل «بنت الريِّس» في الخشاب، فهو مشهد منقول من إنجيل متى، الإصحاح (4)، والذي ينص على «إحياء يسوع لابنة الرئيس»..وهذه المعجزة اليسوعية تحديداً، وزَّعتها ألسنة الشفاهة على رهط من الأولياء، مع تعديلات طفيفة تطلّبها الظرف التاريخي.. ففي سياقها، تطالع المعني الذي أصابه يسوع، في عبارة الشيخ خوجلي وهو يصارع ملك الموت لانتشال روح المرأة قائلاً: «أنا غلبان» الواردة في الطبقات، فهي في نفس معنى«هد الحيل»، الذي غشى السيد المسيح حين لامست ثوبه إمرأة نازفة..«وإلتفت يسوع شاعراً في نفسه، بالقوة التي خرجت منه».. أنظر انجيل مرقص، الإصحاح(5) .. إن نصوص الكرامات، تكاد تُسبغ على الشيخ خوجلي كل أفعال يسوع، حتى في إئتمار الرياح والمياه بأمره، لكن النص المقتبس إلى درجة النقل عن الإنجيل، فقد ورد في الكرامة المنسوبة للشيخ اللُّبَدي، وقد جاء أصلها في الإنجيل هكذا: «ولما فرغت الخمر، قالت أُم يسوع ليس لهم خمر قال لها يسوع مالي ولك يا إمرأة، لم تأت ساعتي بعدُ، فقالت أُمه للخدام: مهما قال لكم فأفعلوا... وكانت ستة أجران من حجارة مصنوعة... قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء.. فملؤوها إلى فوق، ثم قال لهم أسقوا الآن وقدموا لرئيس المُتّكأ فقدموا، فلما ذاق رئيس المُتّكأ الماء المتحول خمراً ولم يكن يعلم من أين هي، دعا العريس وقال له: أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن«..أنظر، إنجيل يوحنا، الإصحاح (2) .. هذا النص تسودن في كرامة تتصالح مع الخمر، وتجعلها كالسمن والعسل، بمعنى أن الكرامة لم تتورط في الخلاف بالتحليل أو التحريم، بل أكدت إتّفاقاً على امكانية خرق العادة.. وقد جاء نص الكرامة بقلم ودضيف الله، في ترجمة الشيخ اللُّبدي، هكذا:«وكلمته أُمه...أين السمن والعسل؟ فقال لها: جيبي زيراً اسقيه وأملوه ماء... ثم قال لها جيبي آخر، فملته كذلك... ثم أدخل عكازه في الزير، وساطه يميناً وشمالاً، وقال بسم الله الرحمن الرحيم أب ت ث ج ح خ،، فانقلب ذلك الماء سمناً أصفر له دريش، والثاني عسلا»..! وهكذا النص المقدس، حين يتداوله الناس، لا ينجو من التفسير والتحوير والإضافة والحذف..إنّ النص مهما سما، فإنّه يتأنسن، لأن كل نص مقدس، يلازمه نص ثقافي، يعيد انتاجه وتأويله.. وتأنسُن النص لا ينزع عنه القداسة، إذ الأنسنة، هي دليل على حيوية القداسة، في داخل الوعي..