مرة أخرى، قررت أحزاب مؤتمر جوبا أو «الإجماع الوطني» أن تعيد الكرة وتخرج في «مسيرة سلمية» غداً الاثنين - كما هو معلن - إلى مقر البرلمان، لتقديم المذكرة التي لم تتمكن من تقديمها يوم الاثنين الماضي بعد أن تصدت لها قوات الشرطة ومكافحة الشغب وفرقتها، وألقت القبض على بعض قادتها قبل أن تطلق سراحهم في وقت لاحق. مسيرة الغد - وبحسب الأخبار - ترفع نفس المطالب القديمة الموجهة للبرلمان، وهي الإسراع بتعديل القوانين ومواءمتها مع روح ونصوص الدستور الانتقالي، خصوصاً تلك القوانين المطلوبة للتحول الديمقراطي والاستفتاء والمشورة الشعبية، والإسراع أيضاً في حل أزمة دارفور، بما يمكن البلاد من إجراء انتخابات حرة نزيهة تمهد للاستقرار، والاستقرار أحد العناصر الضرورية لجعل الوحدة جاذبة، بما يهيئه من أجواء ملائمة لاستعادة الثقة بين مكونات الوطن. هذه القوانين المطلوب تعديلها ومواءمتها مع الدستور تأخرت كثيراً، وظلت البلاد - كما أشرنا وأشار غيرنا أكثر من مرة - تحكم بقوانين قديمة تم وضعها وصياغتها من وجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر حزب المؤتمر الوطني الحاكم وعهد «الإنقاذ»، قبل أن تدخل البلاد المرحلة الانتقالية باتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005، وكان بميسور الحزب الحاكم ذي الغلبة والشوكة أن يعمل على تعديل وتبديل هذه القوانين منذ الشهور الأولى لإجازة الدستور - حتى بأغلبيته الميكانيكية في الوزارة والبرلمان - لو صح منه العزم وأراد لكنه لم يفعل. ومع تطاول الوقت بدأ المعارضون يتململون و «يتلملمون» خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات. فهؤلاء يرون في هذا «التأخير» تعمداً وقصداً وترصداً من جانب الحزب الحاكم، للإبقاء على نشاطهم في الظل وحرمانهم من التواصل والحراك الضروري لتنظيم صفوفهم، واستعادة قوتهم الجماهيرية المطلوبة للفوز بحصة مقدرة في الانتخابات المرتقبة. وهذا هو - ببساطة شديدة - أسُّ الأزمة التي تشهدها البلاد اليوم والتي تتصاعد وتائرها، وبدأت تتخذ أبعاداً دولية و«تنفلش» بأسرع مما تصور الجميع. وأمثلة هذا «الانفلاش» الدولي للأزمة كثيرة، منها متابعة الإعلام الدولي - فضائيات وإذاعات وصحافة - ومنها مواقف رسمية وتصريحات معلنة لمسؤولين. من ذلك ما جاء في الأخبار من «إدانة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون يوم الخميس لتعطيل السلطات لمسيرة الاثنين التي نظمتها قوى الإجماع الوطني»، معتبرة أن حرية التعبير والتجمع ضروريان لإجراء انتخابات ذات مصداقية، وقالت إن السودان يحتل أولوية مهمة للرئيس أوباما، وبالنسبة لي أيضاً، ونحن التزمنا بتحقيق تحول «سلمي ديمقراطي»، وقالت أيضاً إن بلادها «تدين تعطيل الاحتجاجات السلمية وأعمال العنف السياسي من قبل أي طرف، وأن حرية التجمع والتعبير والحماية من الاعتقالات التعسفية والاحتجاز مطلوبات أساسية للسماح بإجراء انتخابات ذات مصداقية في أبريل 2010م، والشهور القليلة القادمة ستكون متوترة كلما اقتربنا من الانتخابات والاستفتاء، ومن المهم أن تضاعف جميع الأطراف جهودها لحل المشكلات من خلال الحوار السياسي وبدون عنف»، ومن ذلك أيضاً قول المبعوث البريطاني الخاص إلى السودان مايكل أونويل - بعد لقائه زعيم حزب الأمة الصادق المهدي يوم الخميس - أنه «لمس من خلال مناقشته مع كل الأطراف السودانية اهتمام الجميع بكل ما يعزز الاتجاه، الذي وصفه بالإيجابي نحو التفاوض السياسي حول مختلف القضايا التي تجد الدعم من الحكومة البريطانية». ومنها كذلك لقاء زعيم حزب المؤتمر الشعبي د. حسن الترابي مع مساعد الأمين العام للأمم المتحدة إديموند موليت أمس الأول لمناقشة جملة من القضايا، وتصريحه عقب اللقاء بأنه «بحث مع الترابي كافة القضايا المتصلة بالسلام وقضية دارفور والانتخابات القادمة، وقال: استمعت إلى الترابي حول القضايا السودانية كافة». ومن الأمثلة أيضاً الزيارة التي يزمع الأمين العام للجامعة العربية القيام بها إلى السودان - خصوصاً دارفور - وتوقع المراقبون أن تتصدر «أحداث الجنوب والمواجهات بين شريكي الحكم مباحثات موسى»، وقول مسؤول الشؤون الأفريقية بالجامعة سمير حُسني إن «موسى سيسعى لإقناع الأطراف بالعمل من أجل الإحاطة بالتوتر، والإبقاء على زخم العملية السياسية». و الأمثلة كثيرة لم تستثنِ حتى «الفتاوى الدينية» رداً على فتوى صادرة من هيئة علماء السودان بتحريم المظاهرات المناوئة للحكومة، فقد أصدر د. يوسف القرضاوي رئيس «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» فتوى تقول بأن المسلمين «من حقهم التعبير عن مطالبهم المشروعة وإبلاغ صناع القرار بحاجتهم بصوت مسموع، وبالتالي لهم الحق في أن ينظموا المسيرات والتظاهرات السلمية، مشدداً على أن هذا الأمر يدخل في دائرة الإباحة»، وأنه «لا حرام إلاّ ما جاء بنص صحيح الثبوت صريح الدلالة على التحريم». كل هذا «الانفلاش» الدولي والتوسيع غير المحسوب لدائرة الخلاف والتوتر، كان يمكن تفاديه لو تذكرنا أن «العالم يراقبنا كما أشرنا في إضاءة «الاثنين» - يوم المسيرة - وأكدنا عليه في إضاءة «الأربعاء» الماضي، وهو في حقيقته «انفلاش» ضار، لأنه يغري ويشجع على المزيد من الاضطرابات والتوتر، يغري بعض المعارضين ذوي النظرة الضيقة والحانقين بالعمل على «فش غبائنهم»، ويغري «المتشددين» من الموالين للسلطة الرافضين لعملية السلام والتحول الديمقراطي للمطالبة بتصعيد الضغط والكبت، غير عابئين بنسف الاستقرار أو عودة الحرب، حتى لو التهمت أرتالاً مؤلفة من الشهداء، كما قال بعضهم. أمام أصحاب القرار الحقيقي الآن، وبعد كل الذي جرى، فرصة حقيقية لأن يصنعوا من «الأزمة فرصة»، من خلال فعل العكس، وهو أن يسمحوا لمسيرة الاثنين السلمية - بعد التدقيق والتنظيم بحيث تصبح «سلمية» حقاً وصدقاً - أن يسمحوا لها أن تسير في هدوء وسلام حتى تبلغ غايتها وتسلم المذكرة والمطالب التي تريد أن ترفعها للبرلمان، وأن تسمح لكل مسيرة سلمية أو تجمع أو تظاهرة مدنية دون ما حجر أو مطاردة، دونما تفريط في أمن الناس والممتلكات العامة والخاصة. وبذلك يكون الحكم والشرطة والأمن قد أدوا واجبهم على أكمل وجه: أطلقوا حرية الناس في التعبير، وأمنوا المجتمع من غوائل التفلتات، وتفادوا إظهار البلاد بأنها وطن يفتقر إلى الحرية، خصوصاً مع تآكل عنصر الوقت واقتراب موعد الانتخابات التي نحن على مرمى (ورقة) من صناديق اقتراعها كما قلنا من «قبل». صناعة «الفرصة» من «الأزمة» الناشبة والمستحكمة الآن تستدعي حكمة الجميع، خصوصاً أصحاب «الحل والعقد» الحقيقيين، لأنهم - ببساطة أيضاً - أصحاب مصلحة في «الاستقرار»، خصوصاً ونحن نسمع ونطالع كل صباح ومساء تصريحاتهم بأن المعارضين «يخشون الانتخابات» ويعملون على إفشالها، خوفاً من انكشاف أوزانهم الحقيقية في أوساط الجماهير. والخلاصة المنطقية لمثل هذه الأقوال هو «العمل المضاد» الذي يفشل كل «مخطط» لتخريب الانتخابات، وذلك من خلال تفادي كل الأعمال المثيرة والعنيفة التي تؤجج السُخط وتوتر الأوضاع، وبذلك يكون الحكم قد خلق «من الأزمة فرصة» وساعد كل الساعين لدفن الأزمة، وتأمين الاستقرار - الذي هو في مصلحته - عوضاً عن السعي ل«دس المحافير». * تصويب واعتذار وردت - خطأً - في مقال الأمس كلمة «وأوامر» والصحيح هو «وأواصر»، كما وردت كلمة «المحاسبين» والمقصود «المحاسيب»، ما لزم التنبيه والاعتذاز عمّا لا يفوت على فطنة القارئ.