شدنى بقوة ما أورده الأستاذ صلاح حبيب، رئيس تحرير صحيفة المجهر، في عموده المقروء قبل أيام، عندما تسأل مثلي عن معايير الإختيار لتكريم رموز المجتمع خلال شهر رمضان، الذي يحظى برعاية شخصية من المشير البشير رئيس الحمهورية، فقد أحصى حبيب مجموعة من أهل العطاء، ما كان قطار الوفاء سيتجاوز محطاتهم، لو كانت أسس الترشيح تقوم على البذل والعطاء الظاهر، مبدأ التكريم، ومد حبال الوصل بين الدولة والمبدعين والعلماء والمفكرين، أمر يجد منا التقدير والإشاده، دلوني على بلد يسعى فيه رأس الدولة وكبيرها ونوابه الى المبدعين في بيوتهم أينما كانت ليطوقوا أعناقهم بأوسمة الإعزاز بين أهليهم ومعارفهم،لا يتم ذلك إلا في السودان، المحكوم بقيم التكافل والتوادد والعرفان. منذ أن اتخذت رئاسة الحمهورية برنامج التواصل في رمضان طريقاً يؤدي في النهاية للوصول، الى الشخص المكرم، إعترافاً بدوره، وحفزاً لعطائه ظل البرنامج نافذة مضيئة للإطلالة على حياة الكثيرين،الذين رفدوا المجتمع بألوان من عطائهم الزاهي، فكانت الإستجابة والتقدير، تقريظا لنهج الرئاسة الرمضاني وسعيها الدؤوب، للربت على كتوف الآخرين الذين تسيدوا الساحات، تنوع عطاؤهم، وتوزعت خبراتهم تبهر الأجيال. قبل سنوات طرقت أبواب هذه الصحيفة وغيرها من المنابر المفتوحة، مذكرا لجان الاختيار للمكرمين في رمضان، الإلتفات لرائد من الرواد الذين فاض نهر عطائهم ليغرق الآخرين، بصنوف المعارف المختلفة كنت أعني وما زلت الفنان الشامل عبد الرحمن بلاص أحد أشهر المبدعين،الذين جمعوا بين الفن والتراث والتأليف، من خلال رحلاته المتواصلة لأكثر من ستين عاماً مما تعدون.. قدم ما يربو ويزيد عن عشرة مؤلفات مختلفة كمراجع مهمة يعتد بها في مجالات البحوث والدراسات العليا، كان بلاص مهموماً لدرجة الوله، الإنطلاق في الرحاب الواسعة، في معية زميله (المظلوم) الآخر المرحوم محجوب كرار، فقد عشقا سويا جوانب البحث، وسلكا الدروب الوعرة فكانت المحصلة، إرثاً باقياً تلوذ بحماه الأجيال لفك طلاسم الماضي.. اهتم بلاص بنقل تراث منطقة الشايقية؛ ليغذوا أثير الإذاعة السودانية عام 1952م ليودع مكتبتها جملة من الفنون والدراسات التي جاءت متتالية عبر سلسلة من الحلقات التي قدمها وشارك فيها مع علي الحسن مالك، محمد خوجلي صالحين، الطيب محمد الطيب، أحمد العوض الحسن، عبد المطلب الفحل، كاتب السطور وغيرهم، عكف بلاص الى تحويل تجاربه البحثية الى بطون الكتب، أخرج بجهده وكسبه وماله، أكثر من عشرة كتب منها (المرتبة) و(الأبونيه) و(المخلايه) و(عادات الزواج) و(نماذج بشرية) والأخير جمع فيه حصيلة رحيق القلم من الشارع العام. باع بلاص ما في حوزته من مدخور شحيح، قطعة الأرض و(دهب المره) ليوفي استحقاقات المطابع، ما زال يحس براحته، عندما يلقي بجسده المنهك على سرير صغير وضعه بين أرتال الكتب التي ملأت مساحة صالونه المحدود.. عمل بلاص صحافياً بمجلة هنا أمدرمان، في عهد رئيسها الفيتوري مزاملاً لعدد من الصحافيين منهم الأستاذ ميرغني البكري، حسان سعد الدين، محمد الحويج وغيرهم. كان من المبادرين لإصدار مجلة (كل الفنون) عام 1959م مع حتيكابي وعبدالرحمن حمزة، ليكمل المشوار بمجلة الشباب والرياضة وصحيفة الشارع السياسي وغيرها، قبل أعوام تعالت أصواتنا تنادي بتكريم بلاص، ضاعت للأسف في أودية النسيان، وللحقيقة تفاعل وزير الثقافة السابق السمؤال خلف الله بتكوين لحنة برئاسة الأخ عمر الزومة للأسف ولدت ميتة ولم تفعل شيئاً، أتسم عملها غير المحسوس بالبطء والبروقراطية حتى غادر السموأل مقعد الوزارة، فمضى معه برنامج التكريم، ثم كان رجاؤنا لمعتمد بحري الحالي د. ناجي محمد علي منصور، لتكريم رمز محليته بلاص، تحمس الرجل واصفاً بلاص بأنه فنان والده المفضل، ومن شدة حماسه، طلب الى سكرتيرته الاتصال بنا للتنسيق العاجل، مر العام وأتى الثاني، لم تتصل سكرتارية المعتمد، ولم يبادر هو لتكريم بلاص، ما بال بعض المسئولين في بلادنا يقولون مالا يفعلون.. الآن وقد تهادت برامج التكريم الرمضانية الى مشارف النهاية، خرج بلاص من مولدها وفي يده (حمص) الإنتظار الطويل، لم يشفع له دوره، ولم يؤهله تاريخه لينال ثقة اللجنة، مكرماً عزيزاً لبلائه الذي زاد عن ستين عاماً الآن، بعد أن جفت الصحف ورفعت الأقلام وانفض سامر التكريم، نرفع صيحتنا برمتنها يسبقها الأمل والعشم، وقوفاً على أعتاب صاحب المقام الرفيع سعادة رئيس الجمهورية نصير الإبداع وراعي المبدعين، لتأتي توجيهاته الفورية بتكريم بلاص بصورة استثنائية، حتى نزيل عن نفسه ما ران عليها من الإحباط واليأس، ليشهد تكريمه ويسعد به، حياً يرزق، يعيش شيخوخة هادئة بين زوحته وبناته الخمس، في ولاية فيها وزارتان للثقافة،لا تفعلان شيئاً إفعلها سيدي الرئيس، وقد تبقت أيام من شهر الرحمة والخيرات، ولك من الله الأجر والثواب، كرموه وردوا بعضاً من جميله، فوالله سنلتفت يوماً ولا نجده بيننا،فلا أحد يضمن عواقب الأيام...