شاهد بالفيديو.. (يووووه ايه ده) فنان سوداني ينفعل غضباً بسبب تصرف إدارة صالة أفراح بقطر ويوقف الحفل    شاهد بالفيديو.. رد ضاحكاً على مزاح الجمهور: (الحوت ما بتلحق وأسطورة لن تتكرر وكنت بغنيها من زمان).. الفنان مأمون سوار الدهب يغني إحدى أغنيات الأسطورة محمود عبد العزيز ويهديها لإبنته بعد زواجه منها    شاهد بالفيديو.. رد ضاحكاً على مزاح الجمهور: (الحوت ما بتلحق وأسطورة لن تتكرر وكنت بغنيها من زمان).. الفنان مأمون سوار الدهب يغني إحدى أغنيات الأسطورة محمود عبد العزيز ويهديها لإبنته بعد زواجه منها    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    شاهد بالفيديو.. (يووووه ايه ده) فنان سوداني ينفعل غضباً بسبب تصرف إدارة صالة أفراح بقطر ويوقف الحفل    "الجيش السوداني يصد هجومًا لمتمردي الحركة الشعبية في الدشول ويستولي على أسلحة ودبابات"    غوغل تطلب من ملياري مستخدم تغيير كلمة مرور جيميل الآن    يبدو كالوحش.. أرنولد يبهر الجميع في ريال مدريد    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    ايران تطاطىء الرأس بصورة مهينة وتتلقى الضربات من اسرائيل بلا رد    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    خطأ شائع أثناء الاستحمام قد يهدد حياتك    خدعة بسيطة للنوم السريع… والسر في القدم    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    وجوه جديدة..تسريبات عن التشكيل الوزاري الجديد في الحكومة السودانية    (برقو ومن غيرك يابرقو)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جميل إعادة الاعتبار إلى بلاص وكدكي .. بقلم: صلاح شعيب
نشر في سودانيل يوم 20 - 01 - 2012

حكوماتنا لا تعرف أقدار الرجال والنساء معا. والسبب أنها افتقرت إلى رجال الدولة ونساءها الذين واللائي يقيمون، ويقمن، أعمال الحكمة الإنسانية. هذا ضرب من الجهد البسيط في فكرته، ولكنه عميق في محتواه. فتكريم الذين صنعوا الترابط الاجتماعي، ورققوا أحاسيسه ضرب من الوفاء لأهل الوفاء. ومع ذلك، هناك نفر متبتلون في محراب العمل الثقافي غير الرسمي. يصنعون المختلف تجاه المبدعين. وما تكريم نادي الطمبور لبلاص وكدكي سوى جهد مسؤول من رجال حذاق نحو رجلين هما من رسل الثقافة، وسدنتها.
جمعتنا ببلاص أيام ما تزال حيثياتها مركوزة في الذاكرة رغم بعدنا عنه لمدى عقد ونصف. كانت صحيفة ظلال التي جاء إليها بلاص ذات صباح بكتاب عن الطيب صالح هي منشأ العلاقة المورقة. آنذاك كان أديب السودان يتعرض لمحاولات بقصد المهانة، والابتزاز، والتبخيس. يتقاذف اسمه الكبير هجوم الصحافة. تحجب روايته عن التدريس. لا يمر يوم إلا ووصف بأنه صاحب الأدب الخليع. وهكذا كاد النقدة الإسلاميون أن يوصموا خلقه الفني بأدب الفراش كما فعل البعض بأدب إحسان عبد القدوس. وما كان كل هذا ليحدث لولا عبارة الأديب النحرير التي شككت في أخلاقية الذين هيمنوا على البلاد، وأذاقوا سكانها الويل، والثبور، وعظائم الأمور.
في ذلك المناخ المعكر كتب بلاص عن الروائي الراحل بأروع العبارات. ثم جاء إلى (ظلال) التي أحسها متجاسرة، وربما تملك الشجاعة على نشر ما لا تنشره صحف ذلك الزمن. بجلبابه الأبيض الناصع قدم إلينا، متلفحا عمامته التي لم تفارقه، ويرتدي مركوبا فاشريا. يومها لاقى الفنان ترحابا كبيرا من أسرة ظلال. أجلسناه تحت شجرة كنا نستقبل فيها ضيوفنا بمباني (سوداناو) التي كانت تستضيف الصحيفة. أكرمناه بكوب من الشاي، ولما استرخى بجسده الستيني على كرسي متواضع تجاذب معنا أطراف الحديث عن منغصات البلد، وما آلت إليه من إساءة للسوداني ذائع الصيت. وحينما أحس بالأمان فاجأنا بلاص بأن أدخل يده في جيب جلبابه ليخرج ذلك المكتوب الذي سطره بخط جميل.
فرحنا. كان مقالا دسما يتماشى مع خط الصحيفة التي لم تساير الموجة. وما ساعات إلا وأعملت يدا الزميل نبيل عوض عملا في المقال. ونبيل كان إنسانا فنانا وأسرع من يستطيع كتابة النص على شاشة الكمبيوتر. نبيل كان من النفر الذواق الذي يستمع إلى الفنان مصطفى سيد أحمد طوال الوقت بينما تلتهم يده حروف المحررين والكتاب التي يصففها عبر الكمبيوتر. وقبل أن يسدل العصر خيوطه يكون نبيل قد سلم الزميل محمد عكاشة كل صفحات ظلال التي تبلغ ست عشرة صفحة بحجم التابلويد. ولقد اندهش الأستاذ عبد الله النجيب الذي زارنا يوما حاملا مقالا عن صديقه محجوب سراج. سلمنا المقال حالا لنبيل الذي دردش مع النجيب ثم دلف إلى مكتب التصميم. وقبل أن يكمل النجيب كوب الشاي أسقط نبيل في يده مقالته حتى يصححها بنفسه. وحين بص النجيب على مكتوبه متسقا بحروف الماكنتوش تفاجأ، واستعدل نظارته سميكة العدسات وقال لنا: "الزول ده خت المقال في إبطو أسي ثم أخذ لفة ورجع بيهو مصفوف..ياخي ده أسرع من الكمبيوتر."
لم يمنح نبيل الفنان بلاص مادته في ذلك اليوم ليراجعها. ولكن المهم أن المقال صدر في الصفحة الثالثة من ذلك العدد الذي كنا نعد فيه. فرح بلاص بنشره، خصوصا وانه أشفى غليله هو الذي رأى ابن المنطقة وقد تناوشته سكاكين الآيديلوجيا، وحاكمت أدبه دينيا وسياسيا، ولم تكن تأبه لسرده الرائع وعباراته التي تتراقص، و(تشع) كما قال لي أبو آمنة يوما ليصف عبارة الطيب صالح التي تضيق كلما اتسعت رؤيته عبر الأيام.
بعدها ظل بلاص ابن جزيرة مساوي يكرر زياراته لنا حتى صار ضمن أسرة التحرير. يأتي قبلنا، ويجلس على تربيزة حزينة، ويعد منوعات صحفية تتناسب مع خط الصحيفة الذي أعجبه كثيرا. وهكذا عاد لمهنته التي تركها حين صار فنانا يدير فرقته الاستعراضية منذ نهاية الستينات. وبلاص، وهو بتعدده الإبداعي كان قارئا نهما للكتب، وكاتبا مقتدرا. وإن كان قد تفرغ للصحافة، والكتابة الأدبية، لوقفنا على أثر أديب، أو كاتب، لا يشق له غبار. وهكذا ألفيتنا نتلاقى مع بلاص يوميا إلى أن أوقفوا الصحيفة، فتفرقنا أيدي سبأ. وما نذكره أننا يوما ذهبنا إلى الزميل الزبير سعيد الذي غاب أياما، فما كان من بلاص إلا وأن أتى إلينا بكدكي في ذلك اليوم وصحبتهما مع الزميل محمد عكاشة إلى منزل أسرة الزميل الزبير، بيد أننا وجدناه متوعكا. وبعد أن أكرمتنا الأسرة جلسنا في فناء الدار وعرف الجيران بوجود المبدعين الكبيرين. وتجمعوا في ذلك الفضاء. وما كان من بلاص إلا وأن طلب جركانة فأتى أهل الدار بها. جلس على البساط ومدد رجليه ثم حقن الجركانة بقوة ما بين رجليه فبدأ يغني مرة، وكدكي ينثر الفضاء بشعره الذي يشجي السامعين تارة، ويضحكهم تارات كثيرة. وأحيانا يرقص كدكي أمام الحلبة التي تحولت إلى فرح غامر. وهكذا ظل كدكي يضخ مفرداته الشعرية الكاريكتورية، وبلاص بجركانته يستولد الإيقاع الحار منها. وما لحظات إلا ووجدت الزميلين الزبير سعيد ومحمد عكاشة يعرضان في الدارة بينما كدكي يقفز من السرير، بنشاط صبي صغير، ثم يثبت أقدامه، ويبادلهما العرضة بالتصفيق على إيقاع الدليب المركب: طق طرق طق .. طق طرق طق. وما من شك أن عبد الرحمن بلاص مبدع نادر جمع بين الإبداع في الصحافة، والقصة القصيرة، والبحث في مجال التراث، والغناء، وكتابة الشعر، والعمل الإداري الثقافي.
-2-
أما الشاعر محمد جيب الله كدكي فقد تعرفت عليه في مكتب صحيفة الحياة اللندنية، حيث كان مديره الأستاذ كمال حامد، وآنذاك يشرف على عملنا أستاذنا إبراهيم عبد القيوم بجانب المرحومين عمر محمد الحسن، وصلاح عبد الرحيم، والذي كان متخصصا في الصحافة الاقتصادية، ولقد رحل الزميلان العزيزان فجأة، وأصابني حزن كبير على فقدهما الباكر.
في مكتب الأستاذ عبد القيوم كان هناك ملتقى يعقد لعدد من أصدقائه المايويين، وأبناء منطقته. وكان من بين الحضور الأساتذة كامل محجوب، وآمال عباس، ومحمد الطاهر، ومحجوب كرار، وآخرون. كدكي كان نوارة ذلك المجلس الفريد. وكانت المؤانسات تعقد، آنذاك، متى ما التقى هذا الجمع كثير الجدل حول السياسة والأدب والشعر، بينما كان كدكي يرطب الأجواء برباعياته الشعرية الجميلة. هناك تعرفت عليه، ووجدته كارها للوضع القائم، ومريخيا صرفا لا يرضى انهزام فريقه. وهكذا يؤلف القصائد التي تمجد النجمة ويؤلف قصائده العاطفية المرتبطة مفرداتها بمنطقة الشايقية. ولعل عددا من فناني المنطقة، وخارج المنطقة، تغنوا بأشعاره الجميلة، والحكيمة، والحنينة، والساخرة. ومن بين هؤلاء الفنانين عثمان اليمني، وصديق أحمد، والنعام آدم، وعبد الرحمن بلاص نفسه. وأذكر أن كدكي كان يجد في غناء مصطفى سيد أحمد بعض السلوى، وكنا نتابع أخباره بالدوحة. ولقد كلفني ذات مرة أن أبعث إليه بقصيدة (الفرقة الطويلة) وقد كان. وعرفنا لاحقا أن الفنان مصطفى لحنها. ولكن لم نعثر على تسجيل لها. ونأمل يوما أن نعثر على آثار تلك الأبعاد اللحنية التي قاربت كلمات كدكي الحارقة، والنافرة عن التدجين السلطوي.
وكدكي القادم من تنقاسي لا يختلف عن صديقه بلاص كثيرا، من حيث إنسانيته العالية، وتواضعه الجم، والتصاقه الأكيد بتراث المنطقة التي منها انحدر، وشفافيته في التعامل مع الآخرين. الإثنان استماتا في أن ينقلا إلينا تراث منطقة الشايقية ذي المضامين الجميلة الرائعة، والولهة بالمحبوبة في هجرها المصون هناك بينما يتعذب الشاعر هنا في فناء السواقي بقريضه اللوعة. إنهما قدما لنا فصولا من طرائق الأهل هناك في النظر إلى الأرض، والمرأة، والحب، والسياسة، والماضي. إنهما، في الحقيقة، قبضا على كل البيئة في أكفهما الأربعة ثم فتحاها، ضاحكين، أمام ناظرينا.
الحقيقة أن بلاص وكدكي كانا سفيرين معتبرين لمنطقة الشايقية. صدحا بمكنون البيئة، وأسهما في الحفاظ على تراث المنطقة من خلال الشعر، والغناء، وبذلا لما يقرب نصف قرن من الزمان، في مضمار النسج الشعري، والغنائي. وربما هما آخر مبدعين من الرعيل الأول الذي حمل على عاتقه هم تعريف بيئات السودان المختلفة بتراث المنطقة. ولا بد أن الجيل الثاني، والذي يمثله السر عثمان الطيب، عبدالله محمد خير، وحاتم حسن الدابي، ومحمد الحسن سالم حميد، وآخرون، تأثروا بتجاربهما الباكرة، وبنوا عليها، ومن ثم عجنوا خميرة هذه المفردات بمسائل فلسفية، وثقافية، وسياسية، حملت عبء الهم بالتغيير الوطني نحو الحرية والديمقراطية. وعلى هذا الأساس ما عادت شعرية المنطقة، بخصوصيتها اللغوية، إلا مزجا من مزيج التعبير الشعري الذي يجد التقدير من كل أهل البلاد. وربما يجد الباحث في بعض شعر بلاص، وكدكي، والسر عثمان الطيب، المفردات الناهلة من مفردات البيئة وقد طفقت تعبر عن القضايا الجوهرية للإنسان السوداني في شماله، وغربه، وجنوبه، وشماله. ولذلك كان من السهل أن يجد المتلقي في كل بقاع السودان هذه المفردات الشعرية عاكسة لأحلامه، وهمومه، ومعاناته اليومية، التي ظلت تترحل من زمن إلى آخر، دونما نهوض لمسؤولين من أجل معالجتها.
وبرغم أن القصائد التي شدا بها بلاص وكدكي كانت في مرحلة من المراحل يصطلح عليها بأدب الربوع، أو تعد ضربا من التراث الشعبي، أو ملمحا من الفلكلور، وغيرها من المصطلحات، إلا أن الجيل الجديد من المغنين كذب هذه المزاعم. لقد صارت هذه القصائد تنافس عامية أم درمان في كل شيء، بل وتجازوتها في كثير من أخيلتها، ومواضيعها الدائرة في فلك العاطفة. ولقد قام بعض الفنانين بتلحين هذه القصائد، وصارت مقبولة، لا كنمط فلكلوري يعبر عن المنطقة، أو ربوع منها كما قصد وعرف، وإنما كفن أصيل، ذاك الذي يبني في اتجاه التعدد الثقافي السوداني، حيث لا أفضلية لنمط ثقافي إزاء آخر إلا بالقدرة على تجويد التناول الإبداعي، وتجديده، أو بالجرأة في تكثيف التجريب الفني.
ولا شك أن قصيدة منطقة الشايقية بالإضافة إلى قصيدة بقارة منطقة كردفان، ولاحقا قصيدة منطقة الجزيرة أو البطانة، والقصيدة الدارفورية في شقها العامي والبقاري، وحتى القصائد المغناة بلغات من مختلف السودان، كل هذه التجارب الإبداعية السودانية تعزز ثقتنا في كون أن بيئات السودان المتباينة في منتوجها الإبداعي هي التي ترفد تجارب المركز الثقافي، وتحميها من الضمور والتكلس الإبداعيين. بل وتمنح مبدعي المركز المجال للتنافس أكثر مع الأصوات الجديدة، ذات الحساسية الإبداعية المستندة إلى تراث اللهجات العامية، وأيضا تفرض على هؤلاء المبدعين تجويد أعمالهم.
وللأسف فأن التسميات التي تلحق بقصيدتي بلاص وكدكي، وغيرهما، مثل القول بأنها إبداعات الربوع، أو نوع من الفلكلوريات، أو نمط من الأدب الشعبي، هي محاولة لتحجيم المبدعين في الدائرة الضيقة، وإبعادهم عن تراث مناطقهم، بينما، والحال هكذا، تتسع المواعين الإعلامية لقصيدة الوسط كي تبدو أكثر قومية، أو عصرية، أو إبداعية، وعلى أن تكون قصيدة الوسط، هي التي تستوعب أو تدجن خيال أبناء الأقاليم في طرائقها، وقوالبها الفنية، حتى لا يلتفتوا إلى التعبير بمفردات نشأوا عليها، وشكلت وجدانهم، وشخصياتهم الثقافية. ولا يقتصر هذا الأمر على مستوى الشعر، وإنما يغدو سياسة ثقافية مسكوتا عنها، تلحق بالغناء، والفن التشكيلي، والدراما، والمسرح، حيث لا تسود إلا لهجة محددة، ولا يعترف إلا بسمة فنية معينة، ولا تقيم إلا موضوعات محددة في سبيل التدجين من خلال ثقافة أحادية.
-3-
الأمر الأهم هو أنه مع عظم فكرة نادي الطمبور في الالتفات إلى المبدعين الكبيرين بلاص وكدكي، وتكريمهما بما يليق، كونهما حققا فتحا للمنتمين لثقافة الطمبور، إلا أن المؤسف هو أن يجيء التكريم (مناطقيا) لهذين المبدعين الذين عرفا كل السودان بإبداعات جزء أصيل من أجزائه. والمؤسف الأكثر أنه في سودان الإنقاذ بدت مهرجانات تكريم المبدعين تأخذ الصبغة الجهوية في ظل عجز وزراء الثقافة والإعلام في أن يكونوا رجال دولة حتى يقوموا بإعفاء الجهات الجغرافية من الحرج العرفاني. وما كان هناك شيء يقف أمام هؤلاء الوزراء المتعاقبين في أن يتبنوا مشروعا كبيرا لتكريم المبدعين لا على أساس جهاتهم التي وفدوا منها، وإنما على أساس أنهم مبدعون سودانيون بذلوا الغالي والنفيس في حفظ إبداعات الثقافات، وتطويرها، وإشاعة تداولها على أوسع نطاق. نقول هذا وفي ذهننا الحال الذي وصلت إليه الثقافة في البلاد التي تأثر مناخها الثقافي بما للسياسة من مناخ يدفع إلى العشائرية، والجهوية، والقبلية. ونأمل ألا يأتي يوما لنرى مبدعا سودانيا أصيلا مثل عبد القادر سالم وقد تنادى أهل كردفان لتكريمه، خصوصا وأن ما قدمه هذا المبدع تجاوز المحلية، وعرف العالم بجزء من تراث بلاده. والأمر كذلك إذا رأى الناس أبناء الجزيرة وقد تنادوا للاحتفاء بمبدع كبير مثل عبد العزيز المبارك، وهو الذي ارتقى بالذوق السوداني محليا، وله في أوروبا مساهمات لعرض الإبداع السوداني، وقس على هذين المثالين.
وبلا أدنى شك أن دور المنطقة مهم في تكريم المبدعين، بل وهو ضروري لدعم أبنائها الذين عكسوا صورة مشرفة على المستوى القومي. كما أن هذا الدور مطلوب بإلحاح متى ما كانت هذه المناطق قادرة على تشجيع المبدع الذي تحدر منها بأكثر من تكريم، ولكن المطلوب الأكثر هو ألا يكون هذا التكريم المناطقي هو الأسبق، أو الوحيد، الذي يشمل المبدع في حياته في وقت تعجز فيه الوزارة القومية المعنية، أو المنظمات الثقافية القومية، عن أن تكون سنة التكريم قائمة لكل المبدعين، لا في حالات الموت أو المرض فقط وإنما في حالات يكون فيها المبدع سليما معافى.
خلاصة الأمر نثمن دور نادي الطمبور الذي أحس بالفراغ في التكريم القومي لابني المنطقة، ونثمن، أيضا، دور إدارته في الاهتمام بتراث المنطقة، ودعم أبنائها المبدعين من الشعراء. وما تكريمها للأستاذين عبد الرحمن بلاص ومحمد جيب الله كدكي إلا عرفان لا يأتي إلا من أهل عرفان، وذوق. والأمل في أن يوسع النادي نشاطه ليشمل كل المبدعين السودانيين دون التقيد بمنطقة بعينها. وربما في ذلك إثراء لنشاطات نادي الطمبور، وفرصة للتثاقف، والتعرف على إبدعات أخرى. ولعل الطمبور، كما نعلم، آلة ضمن العائلة الوترية التي تضم الكربي، وأم كيكي، والربابة، والباسنكوب، ومن على البعد نرسل تهانينا لأستاذينا بلاص وكدكي وهما يستحقان أكثر من ذلك. ولا بد أن زمنا أفضل سيأتي ليجدا التكريم القومي في أجواء من الحرية والديمقراطية تتيح لنا معرفة نضالاتهما ضد البؤس السياسي.
salah shuaib [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.