قال أخونا الشاعر الكبير شمس الدين حسن الخليفة وهو يعاتب الشمس هذه الأيام: يا عين الشمس مالك علي كشرتي مين الزعلك وعلى العباد حمرتي قليتي الناس قلي في عذابنا ما قصرتي أظن لو كنتي صايمة معانا كنتي فطرتي لقد اقترن شهر رمضان المبارك عندنا (بالمويات).. لحرارة الجو العالية وسرعة فقدان السوائل فاحتلت المويات عندنا حيزاً كبيراً من مائدة رمضان. ومنذ أن ترتفع في الجو رائحة الحلو مر والأبريه بأنواعه والرقاق، تلتقط حواسنا قدوم شهر عظيم يستعد له الناس بالمويات وتوابعها من (جكوك) و(ترامس)، وتنشط تجارة (العدة) بأنواعها المختلفة.. وكلها تذهب لتؤكد حقيقة (المويات)، ولعلي أزعم أنه منذ أن حل الإسلام بديار أهل السودان حل معه شهر رمضان (بموياته)، ولا أذكر في حياتي وحياة أجدادي أن رمضان قد غافلنا وحل بيننا ولم نستعد له (بموياته).. ربما يفاجئنا الخريف كل عام ونحن لم نستعد له، ولكن لم يحدث أن فاجأنا رمضان وكنا على حين غفلة. في مقال سابق كتبت عن الماء كإحدى معجزات الخالق جل شأنه، وخاصة في رمضان وتحت وطأة هذه الشمس الحارقة وعند مغيبها تبتل العروق ويذهب الظمأ، فإن الماء يفعل فعله في الكائنات الأخرى بتسخير من العلي القدير.. فالماءالذي يحمل المغذيات في أشكالها الذائبة إلى أعلى ورقة في الشجرة عندما يتبخر منها لا يحمل معه تلك العناصر بل يتركها للورقة لتصنع منها غذاءها. والماء الذي يحمل الأملاح المطلوبة إلى خلايا كائنات المياه العذبة يمدها بما تحتاجه من أملاح ومعادن،. والماء الذي يدخل في أجسام الكائنات البحرية يحمل معه ما يزيد من الملح إلى خارج الجسم من خلال غدد (ملحية) وذلك لتمكين الكائن الحية من شرب ماء البحر أو أكل الكائنات البحرية التي تحتوي أجسامها على نسبة عالية من الأملاح.. حتى الدموع يحمل الماء من خلالها كمية كبيرة من أملاح البوتاسيوم بكل أمانة إلى الخارج.. ولتلك الخاصية الفريدة للماء الذي هو نعمة من نعم الخالق على كائناته جميعها نباتها وحيوانها، برها وبحرها، مؤمنها وكافرها حفظ الله بها توازن الأشياء (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون). الذي يتأمل الماء يجد إنه ليس سائلاً نشربه فقط، بل دنيا كاملة يتغلغل الماء في أدق مفاصلها وجزيئياتها.. ولو تأملت رحلة قطرة من الماء من داخل الأرض من مسافة مائتي متر داخل جذر من جذور شجرة السكويادندرون التي تقف على إرتفاع 264 متراً، وتلك القطرة تحمل معها عناصر غذائية تمثل شريان الحياة لآخر ورقة في أعلى فرع فيها، وإذا حدث أن تعثرت في طريقها فإن تلك الورقة ستموت حتماً، إنك إذاً تشاهد قدرة خارقة ونظاماً بديعاً يتحدى الجاذبية حتى يصل إلى ورقة خضراء في إنتظاره.. كم قوة الموتور التي تحتاجها ليرفع الماء إلى عمارة إرتفاعها 500 متراً؟ وقد يقول قائل هذا يمثل قدرة الجاذبية الشعرية في أنيبيبات الجذور والجذوع والفروع والأوراق.. صحيح ولكن تلك الجاذبية لا تستطيع أن تجذب زيتاً. إذاً هو أمر متعلق بخصائص الماء. هل فكرت في الماء وهو ينقل الحرارة من داخل الجسم في يوم ملتهب حرارة إلى الجلد ليتبخر فيبرد الجسم؟ هل فكرت في الماء وهو ينقل الهرمونات إلى أعضاء الجسم المختلفة ليضبط بها إيقاعها وتفاعلها مع المؤثرات المختلفة؟ إشتر لوحاً من أفخر أنواع الصابون وادعك به يدك لتنظفها.. لن ينظفها ولكن الذي ينظفها هو الماء، في شهر رمضان الكريم وأنت تروي ظمأك تأمل في بديع صنع الله في الماء . ونحن نشكو من قذارة الماء واتساخه.. ولكن الماء خلقه الله نظيفاً ويعود إليه في دورته السرمدية نظيفاً ولكننا نحن الذين نلوثه.. فاللهم احفظ ماءنا وماء وجوهنا وقنا شر العطش - عطش الجسد وعطش الروح وظمأ لا مجال لريه وهو ظمأ الثروة وظمأ السلطة.