أهم نبأ أذاعته المدائح، هو نبأ انتصار الصوفية على الفقهاء، وذلك النبأ هو جوهر كتاب «الطبقات».. ومن إشارات نصوص المدائح إلى ريادة ثقافة الطريق، ما جاء على لسان مادح الشيخ بدوي أبو دلق في مدح شيخه: «الجود والكرم غيرهن ماهم / مكة مجلسه وكت الرجل تِنْضَمْ ».. هذا البيت ، يحمل في بساطة العبارة، وصية الجيلاني لتلامذته، بالتزام الصلاة والاطعام، والبذل..والشاهد هنا، أن الممدوح كأحد قامات الطريق، قد تجاوز أنصع الخصال القبلية، إلى فعل الصفوة الروحية الذي يُبني فوق الأصل.. الأصل هو الكرم.. والكرم معهود عند القبليين، أمّا الإضافة التي جاء بها الصوفية، فهو تتويجهم لذلك العهد بتاج الروحنة، حتى يكتمل للشيخ الصوفي المقام، وهو مجبول بذلك على التربع فوق القمة، بمعانيها الروحية والاجتماعية.. إن إذاعة نبأ غلبة الصوفية، على الفقهاء عبدة النصوص، لم يكن حكراً على المادحين وحدهم، بل شاركت في بثّه «مادحات»، أو قل «حكّامات» ذلك العهد.. ويشهد على ذلك أن بعض التشطير الذي يحمل سمات رجزهن ، أو غنائهن المُشاع في البوادي.. والحكّامة بمفردها عبارة عن قناة إعلامية مؤثرة في مجتمع القبيلة، فهي التي تلهب الوجدان وتثير الحماس بأدائها الأُنثوي المفعم بالتحدي والتحفيز، وبإطلاق عقيرتها في غناء يحتشد بالتعليق القصير المثير.. وقد أشار ود ضيف الله إلى إبداع بعضهن، فدوّن في طبقاته رجز إمرأة «مِن ناس قرّي» يشير إلى أنّها مدحت الشيخ شرف الدين العركي قائلة: «شجراً وكت الله اداك لا نيلا سقاك لا مطراً جاك/ ولد عركي كل يوم يغشاك سوالِك ورقاً ظلَّاك».. ومعنى هذا القول، أن العركي قد أورق حضوره تلك الشجرة، دون ماءٍ نيل أو مطر..كذلك، فإن النّص يشير الى نصيب لتلك الحكّامة من الثقافة الدينية لكونها أعادت انتاج واقعة واردة في كتب السيرة النبوية.. مثل هذا الرجز أو التشطير، مازال مألوفاً على ألسنة الحكامات خاصة في المناطق الغربية والوسطى من السودان، وتأتي به أخريات، ولكن بدرجات أقل في مناطق الشايقية والمناصير والرباطاب.. «ونحو ذلك يقولونه في الكرير».. أنظر الطبقات، ص 230..و«الكرير» هو التنغيم الذّكوري المقابل لرجز الحكّامات، ويسمى أيضاً بالطمبور، هو تنغيم بالحلق ينتشر بين أهل البادية ويتباين عن النغم المُصاحب للطبل في مناطق الصعيد، وعن الطار الذي يئز في ليالي المديح، كما واضح في مدائح علي ود حليب وحاج الماحي.. إلخ.. هذه الصياغة المُنغّمة لنبأ انتصار الصوفية، جاء مُشبّعاً بتراثيات الربوع على قاعدة الثقافة الهجين، انطلاقاً من عقيدة متسامحة تجمع بين العرف المجتمعي وقدسية الدين، دون إدعاء إنتصار طرف على آخر.. فالنصرة هنا ل «جواهر المعاني».. وفي هذا السياق، قيل في مدح الشيخ حمد ولد أم مريوم: «أبونا أبو دلقاً مرقع- العندو الراي والصح المفقع / أبونا المنع المناكير والكباير- أبونا الخلا الفزاريات فقاير..«الأب الذي يشير إليه النص، ليس هو الأب بعلاقة الدّم أو ذلك السلف المباشر، الذي يرسم له الذهن بالإسقاط، حالة حياة مشمولة بالرّاحة والمجد.. الأب هنا، هو الأب الروحي المتلفِّع بجبة التصوف.. وفي الشطر الثاني من البيت الأول، في النص أعلاه، هناك إشارة إلى إجتهادات الشيخ ود أم مريوم وإعماله «الرأي» في تفسير وتطبيق النصوص..أما «الصِّح المُفقّع» فهي عبارة تحمل معنى إعتداد الشيخ حمد ود أم مريوم بالنص كحجية دامغة، وهذا الاعتداد يشير الى جذوره الفكرية وإلى ملمح الفقيه المعروفه في شخصيته.. يلي ذلك إعلان غلبته كولي إنخرط في الطريق، حتى تمكن بعد ذلك من تجنيد، حتى نساء القبيلة، اللائي ترفعن في معيته إلى درجة ال «فقاير»..