المدائح الدينية «النبوية» في السودان، تعتبر أثراً دالاً على الحياة الاجتماعية والروحية، إذ تخرج من نصوصها جملة من حقائق التاريخ.. من ذلك ، أن أدب المدائح يدلل بصورة لا لبس فيها، على أن اللّغة العامية قد كانت، أبرز ملامح الهوية الثقافية لأهل السودان، إذ تعانقت بالنغم والإيقاع الافريقي، ومثّل ذلك العناق، قمة التناغم بين الثقافة العربية الإسلامية الوافِدة والإرث الافريقي المحلي، والعامية التي صِيغت بها جُل قصائد المديح الديني، هي لغة عصية على فهم أهل المدائن الذين انقطعت بهم السبل عن جذورهم، حيث أن ذلك الأدب، في تداخله البيئي، و في تعبيره عن حالة التمازج العرقي والثقافي، إنّما يعبِّر عن مرحلة تاريخية ماضوية تجاوزتها مجتمعات المدن- نوعاً ما- لانغماس تلك المجتمعات في ثقافة أساسها تعريب المجتمع عن طريق تقليد تجارب دول الجامعة العربية في مجال المناهج والتوجية التربوي والإعلامي، على اعتبار وحدة الثقافة والتاريخ والمصير المشترك.. كانت العامية هي لغة الدين، بل هي لغة الخطاب الجماهيري الصادر من الحكّام، إذ لا يُعقل أن يمتشق المادِح أو الحاكم السنّاري، سيف الضّلاعة اللغوية في توليف عقول وقلوب مجتمع هجين.. ولذلك كانت القصائد الفصيحة في عهد السلطنة الزرقاء، قليلة نسبياً، عند المادحين،، ذلك أن الفصحى، في تعقيداتها البلاغية والنحوية، لم تكن لسان لحال مجتمع هو قيد التشكُل.. وما قيل من قصائد فصيحة، على قلته، إنّما يعبر عن حالة العزلة التي كانت تعيشها النخبة المنتمية إلى ثقافة الوتر العربي، في تأثرها بأحوال الهجرة مداً وانحساراً... وفي ذلك الطرف اليسير من نصوص المدائح الفصيحة، تجد نُذر استعلاء العربية على اللهجات المحلية بالاستناد إلى معين القداسة... والواقع أن هذه النخبة، المنتمية إلى ثقافة الوِتر العربي بسبب قربها من منابعها التي وفدت منها، أجبرت (تاريخياً) على استخدام العامية، كأداة لبث الوعي لأن الفصحى التي يحملونها بين جوانحهم، قد كانت دخيلة في تلك البدايات... ولهذا يسهل إتّهام ذلك الطراز من الأشعار الفصيحة المنسوبة إلى عهد الفونج ، بأنه منحول.. ونأخذ مثالاً لذلك، تلك اللّامية المنسوبة للشيخ طه اللقاني، في رثاء الشيخ حسن ود حسونة، فهي قصيدة تفوح بأنفاس أبي الطيِّب المتنبئ، وعلى منوال قصيدته التي رثى فيها أم سيف الدولة: ( سلام الله ربي ذي الجلال- على شيخ الطريقة والوصال/ سلام قيل من طاءٍ وهاءٍ - على الشيخ المكمل بالخصال/ جميع الخلق قد حزمت عليه- بحسن الحسن في حسن الفعال).. أنظر،الطبقات، ص249.. من الصعب التقرير بانتشار العربية وظغيانها، لكن من الممكن القول، بأن أصداء الثقافة والشعر العربي قد ترددت في بيئة سودان الفونج، وأن ود ضيف الله قد دوّن بعض نصوص الشعر المتداولة في مجتمعات الخلاوي ومن حلقات الدرس، وبعض تلك المتشافهة بين رواةٍ يحفظون ولا يكتبون،، وأن أدب المدائح في السودان يطوي في جوفه حقائق تاريخية إجتماعية عميقة، إلى جانب غرضه العقدي، وأن ذلك الأدب يحتوي على الكثير من آثار اللغات التي هزمتها العربية من بعد، وأنه- أي أدب المدائح - يُضمِر طقوساً وأعرافاً محلية، وشظايا أحاجي وأساطير قديمة،، توشحت بمعانٍ (اسلامية) عبر مكياج النغم ، فأخذت وجهاً جديداً، يحتوي على مضامين مقبولة لدى قطاع الهجين العريض... وبذلك، أثرت المدائح وتأثرت، وأضافت - على سبيل المثال- معانٍ جديدة لاستخدامات الطبل في أوانات الحصاد والحرب وعودة الرعاة، إلخ.. كما ترسخت في نصوصها، مبادئ الأممية الصوفية، التي تجعل من بغداد مركزاً للقوم ، ومن الحجاز مركزاً للكون.. وعن طريق هذا الطرح واسع المدى، تهيأ الذهن السوداني، لاستيعاب فكرة التوحد في دولة، كأنّها (كرش الفيل)، تجمع في جوفها كل تباينات الفسيفساء القبلية والعقدية...