في هذه السلسلة قراءة للتاريخ القبطي، للبحث عن جذور الثورة الثقافية العارمة التي يقودها قس من الأقباط هو الدكتور القمص فيلو ثاوس فرج منذ بداية التسعينيات. لا يهمه ردود فعل سالب يمكن الحدوث باعتباره مروج لعقيدة أقلية! *** معلوم أن الاقباط شعب يمتاز بالذكاء والصبر وهي صفات مكتسبة من وقائع ثقافة (الأقليات) التي تتربى في اجواء التوجس الدائم من الاغلبية الضاغطة. يؤثرون السلامة، وليس بالضرورة خوفاً، ولكنهم في المحصلة يدركون قيمة الرفاهية والسلامة ومكتسبات حضارة (الحيلة)، وذلك لأنهم عميلون ناجحون في الوظائف والأسواق . خبروا تماماً أن مكتسبات (الحيلة) القليلة الثمن أكبر بكثير من مكتسبات ممارسة لذة القوة المنتصرة ! لا يمانع أن يعمل في خدمتك وتحت سلطتك، ولكنه في المحصلة النهائية يخرج بقدر أكبر من مكتسبات لم ينلها صاحب الخدمة نفسه.. معلوم أنهم خدموا كل العروش في مصر، ولكن رغم ذلك كله نستطيع أن نقول، مثلاً : أنهم أداروا أموال المماليك وإستمتعوا بها أكثر من المماليك الذين فروا في صحراء الجنوب بعد مذبحة (محمد علي باشا) وظلوا في مواقعهم حتى، استعانت بهم العروش اللاحقة!. الجذور العميقة للمزاج القبطي هذا، ساعدت الزعيم القبطي الأب القمص فيلوثاوس لأن يروج للاهوت المحبة! *** هذا القس يقود ثورة في المجتمع السوداني، مقتحماً الوعي المحلي بشتى الطرق.. يكتب في أكثر من سبع صحف بعناوين مختلفة أبرزها السودانوية، زيارات اجتماعية لا حصر لها، مصارعات في اللجان السياسية وغير السياسية.. لا يستكين ولا يهرب للعزلة، بل يهاجم وهو يحمل الأحلام والورود. يطالب بإعطاء السودان الجائزة الدولية في التعامل الحضاري مع التنوع، وهو من مؤسسي حزب المؤتمر الوطني الحاكم!! *** نشأ في مصر، وانخرط في خدمة الكنيسة السودانية القبطية عام 1964م. ثم بعد خمسة أعوام رسم قساً، وبعد عام آخر حاز على درجة القمصية، ثم فيما بعد نال درجة الدكتوراة في علم الأديان، جامعة القاهرة (الفرع). . هذه الثورة الثقافية التي صاغت (حقبة فيلو القبطية) لها أهداف ووسائل وأسلوب: الحلم: تذويب الأقلية القبطية في هوية سودانية أصيلة، أو تحويلهم من جالية مصرية عتيقة إلى قبيلة سودانية.. هذا الحلم مصطلح عليه هنا تحت اسم (السودانية)، أما الخطوات الأولية المتعسرة في اللحاق بهذا الحلم أشرنا إليها في هذه الإصدارة بالسودانوية.!! الوسيلة: المقال الصحفي، كتب، علاقات عامة، مشاركات سياسية. هذه الوسائل تعالج: 1- قضية العرق والسلام الاجتماعي. 2- الوحدة القومية وتاريخ الأقباط. 3- مساهمات الأقباط في الحياة العامة. 4- كشف الممارسات السالبة من قبل بعض المسلمين والمشرعين ورفض بعض التشريعات. 5- المطالبة بحقوق الأقباط (القانونية) والاجتماعية، (تعليم ، وظائف). الأسلوب: قراءة لتاريخ السودان (القديم والحديث) لإعادة إنتاج التراث القبطي لينسج به المستقبل! يفعل ذلك مستمداً طاقاته النفسية من: 1- الحرية التي تمنحها البيئة السودانية لتحقيق الذات، وهي غير موجودة في البلد الأم. 2- حقائق ناصعة للتاريخ القبطي في السودان. 3- لاهوت المحبة المسيحية. إذن رخاؤه النفسي مستمد من الحرية والدين والتراث؛ لهذا يقفز فوق جراح الأقلية، ويحل تناقضات الممارسة وهنا تكمن قوة هذا القسيس. الفائدة العامة: أما الفائدة العامة: في هذه الثورة دروس غير مسبوقة للسودانيين في حب الوطن والتغني بجماله.. ولعمري تلك البضاعة نحن في أمس الحاجة إليها!! مآلات التجربة: مثل هذه النماذج الفاعلة في السياسة والمجتمع والثقافة وسط خدام الكنيسة القبطية، ستقود حتماً على المدى القريب لتعديل القانون الذي يجعل الأسقفية حكراً على الرهبان.. في عام (1947م) كادت أن تقع سابقة من هذا النوع على يد البابا يوساب الثاني الذي كان قد قبل القمص يوحنا سلامة في درجة الأسقفية، ولكن ثورة الشعب القبطي في السودان جعلته يتراجع. يلوح لي وأنا أقرأ أكثر من خمسمائة رسالة أن (أبونا) بمؤلفاته التي فاقت الثلاثين إصدارة استطاع أن يضع مخطوطاً لإنجيل سوداني يمكن أن تسميها الأجيال القادمة (إنجيل فيلو ثاوس) السوداني. يمكن أن يقال يوماً- إذا جاز هذا الفهم- إنه كتب للسودانيين المسلمين كما كتب (متى) إنجيله لليهود، وكتب (مرقس) إنجيله للرومان، و(لوقا) للأغا ريق!! *** يمكن أن يقال إنه خدم المسيح طبقاً لمعايير المزاج الثقافي السوداني.. طريقته هذه لو اتخذها التبشير المسيحي الذي أحدث الخراب في تاريخ هذا الوطن، لأصبحت رقعة المسيحية أكبر بكثير من هذه التي نراها الآن!! سياسات أوربا المسيحية التي إتخذت الكنيسة كمخلب قط ألقت في روع السوداني المسلم توجساً مخيفاً من الكنيسة والقسيس، ونحن نعلم تماماً كم يعاني هذا (الأب القمص) من هذا التوجس وهو لا يذكر هذا، ولكنه فصيح خلف السطور!! الروح السائدة في إنجيل (أبونا) المرتقب هي طريقة (مرقس) والسبب ليس لأن صاحب الإنجيل القديم من شمال افريقيا كما هو الحال في ميلاد (أبونا)، ولكن لأن المتلقي المستهدف متوجس من الإيمان بالغيبيات المسيحية، في رسائله التي ما ترك فيها شاردة ولا واردة من تاريخ السودان، لا يلمس (أبونا) كثيراً طبيعة الإله، تماماً كما كانت رسائل (مرقس) مع أهل روما! وربما هنا مصدر قوته، وهو مطالب بزيادة جرعة (البرتقال) في الإسبرين إذا أراد أن يكون مقنعاً، وأمامه أيضاً طريقة (لوقا) من أهل الفكر والثقافة ! ... هذا مع المستهدفين، أما مع أهل ملته فلا بد من إعادة فهم التاريخ الديني وكتابة أناجيل جديدة وحتماً لن تكون على صورة القديم، رغم أنها لن تخرج عليها!! فهل سينجح (أبونا) في هذا؟!! *** نواصل في حلقة قادمة مع خواجات في وجدان جيل !!