«يذهب الصحفي ويبقى المصور»!.. قالها مصور سوداني وليس طاغور أو أنيس منصور.. والذي جعلني أرى في الأمر حكمة هو ذلك الجو الصاخب الذي سيطر حولنا والصحف تبرز خبر الاستقالة المدوية لمسؤول ما كان أمضى إلا بضعة أشهر، هي حتماً لا تسعفه ليترك بصمة تجلب له ذكرى وتعزز العشم في خدمة مدنية يراد لها إصلاح قوامه (بصمة) الأفذاذ، أهل الكفاءة والمهنية. المصور لا يتكلم فإذا نطق توقع حكمة.. بهذا الاعتقاد وقع مني كلام المبدع (حق الله) موقع السبق الصحفي الذي تعزز هذه الأيام مع سطوة الواتساب..لا أدري ماذا كان يقصد حين داهمني بها أمام مقر مجلس الصحافة بطلته المتأهبة للتصوير.. هل كان حديثاً عن (بصمة) المصور؟.. هذه السيرة كانت تشغلني وأنا قادم من نقاش مع طلابي في الجامعة حول أهم مؤهلات مصمم الرسالة الإعلامية فوجدناها تتمثل في صاحب(البصمة).. فبصمة من يعمل في اي مهنة بنية التميز هي غاية المُنى في اية مؤسسة.. وكنت لتوي تلقيت كتاباً جديدًا بمثابة (بصمة) للأمين العام الأسبق لمجلس الصحافة أمضي سبعة أعوام في الموقع الذي غادره الآن أمين عام (جديد)، غمرني الكتاب إحساساً بأهمية (البصمة) في مجال الصحافة كرائدة للمهن الأخرى.. وتتداعى الخواطر، فلقد داهمنا نشر مكثف لاستقالة مفاجئة للبروفيسور هشام محمد عباس، والحكومة تطلق أولوياتها، معاش الناس واصلاح الدولة والاهتمام بالإعلام، تعلقاً بأشواق الخروج من أزمة في الآداء العام، وكان من إيحاءات هذا التوجه اختيار كفاءة أكاديمية كان المإمول أن يبقى ويضيف فتكون له بصمته في هذا الموقع المؤثر.. تصادف أن صدر للدكتور هاشم الجاز في هذه الأثناء بالدوحة كتاباً عن تجربة الصحافة وخفايا مخالفات النشر الصحفي.. قدم له بروفيسور علي شمو بقوله «إنه يمكن أن يكون دليلاً يملك للصحفيين قبل الممارسة وللأساتذة الذين يدرسون القواعد الأخلاقية والتشريعات الإعلامية والصحفية ليكون معيناً لهم على تخريج طالب متميز محيط بكل مافي المهنة من التزام أدبي وأخلاقي».. وحتى لا نأسى لحال المجلس كنت أتمنى أن يبقى هشام في موقعه لسبع قضاها هاشم فيرعى معالجات قانون الصحافة الجديد، ويعمل على تطوير المهنة ويطبع مجلدات باهرة الإعداد متصلة بالتوثيق لتاريخ الصحافة السودانية، حفلت بالخفايا والأسرار والبطولات، أنجزها المجلس مستعيناً بصحافيين أبكار ورموز عبر ورش عمل شارك فيها أصحاب التجربة.. آمل أن يكون البروف هشام قد سلم هذه المجلدات النادرة للمطبعة قبل أن يغادر، لما تمثله من إنجاز وبصمة له وللإدارات المتعاقبة. الاهتمام بالتوثق لتاريخ الصحافة السودانية متزايد الآن كما يتبين من البرامج المتواترة في الإذاعات والقنوات، ومن الإصدارات، ومنها ما اتحفنا به دكتور هاشم في طباعة قطرية أنيقة.. يتناول الكتاب تجربة لجان الشكاوي بمجلس الصحافة المثيرة للجدل.. فهي تمارس صلاحيات خطيرة وتستدعي لجلساتها رؤساء تحرير في مواجهة الشكاوي التي تصلها من المتضررين بالنشر لسبب أو لآخر، فتتحرى في المخالفات وفق المعايير الأخلاقية والمهنية والقانونية وتصدر أحكامها على بني جلدتها بكل جرأة وأحياناً بكل أسف مراعية في كل حين التأثير المطلوب من الصحافة إيجابياً على الرأي العام.. الكتاب(296 صفحة) يستعرض تجارب الدول وسوابق المحاكم في هذا المجال الحساس ويستعرض امثلة لحالات حرجة لا تنسى.. لم احتمل قراءتها.. اتهامات وأحكام ومرافعات لرؤساء التحرير في منتهي الذكاء والحصافة والاعتداد بالرأي والشجاعة في الاعتذار، متى لزم عن تجاوزات ليست من صنعهم.. الكتاب فرصة للتعرف على التضحات العظيمة للرواد والمؤسسين والعاملين في الصحافة.. وفيه عرض شامل لوثائق لا غنى عنها لأي صحفي، وفيها ما يعين على المقارنة وتطوير تجربتنا وبخاصة قانون الصحافة وأخلاقيات المهنة، وكلاهما تقدمته الممارسة الآن والحمد لله.. للصحافة السودانية بصماتها لو قارنا بتجارب لغيرنا أفاض فيها الكتاب، منها ما تباهي(الصحفيون مستقلون لا سلطان عليهم في اداء عملهم لغير القانون). (إن هذا الجهد الذي بذله د. هاشم محمد محمد صالح الجاز مقدر ومشكور، ويستحق أن يجد عليه الاشادة المستحقة، فهو جهد متميز لعالم ذي خبرة أكاديمية وإدارية وخلفية متنوعة).. هكذا تحدث بروف شمو عن إنسان منتج متوازن عرفناه الآن سفيراً لبلاده وموثقاً لأمجادها.. واضح من الإشارة لدور الدكتور عبد المطلب الصديق (الشرق القطرية) والأستاذ كمال جعفر(كتاب الأمة)، لهما التحية، إنه وظف دبلوماسيته لانجاح مهمته كموثق لمادة تحتاج لهدف ترجيحي وفريق مراهن، وهو ذات ما تتطلبه طباعة مجلدات توثيق تاريخ الصحافة السودانية لنفخر.. إن(بصمتها) لا تضاهي.. البصمة هي أن تعمل لخدمة العباد والبلاد وتترك أثراً يستحق التوثيق.. ليت كل المهن تفعل ذلك.. الصحافة السودانية جديرة بأن تضرب المثل.. وما قاله (حق الله) تأكيد لبصمة المصور ولكن للصحفي أيضاً (بصمته) حين يكتب بإلهام وعمق ليقرأ له الناس مرتين، مرة لدي صدورالصحيفة والثانية عبر كتاب يتحفه بأعمق ماكتب.. والأمثلة عديدة ومغرية وتستحق مقالاً آخر.