٭ يعتبر الأقباط من أقدم الطوائف الدينية في وادي النيل، بل والشرق الأدنى، لم يكن المصري يُعرف لدى العرب إلا بالقبطي، أما القبطية فهي ثقافة دينية، تعتبر من تجليات الحضارة المصرية، عند ظهور المسيح كانت مصر ثملة برحيق الحضارات المصرية القديمة، والإغريقية (الرومانية والبيزنطية)، هذه الحضارات كانت قد تعتقت في مدرسة الإسكندرية، لهذا؛ أخذت الثقافة الدينية القادمة من فلسطين مذاقاً خاصاً، شكل فيما بعد المذهب القبطي الأرثوذكسي. *** دخلت المسيحية إلى مصر في حوالي الربع الأخير من القرن الأول، وحتى بداية القرن الثالث كان قد بلغ عدد الأساقفة ما يقارب العشرين... ملامح المذهب القبطي كانت قد بدأت تتبلور في هذه الحقبة، والمذهب في الأساس مستوحى من تفاسير هؤلاء الآباء لهذا التراث اللاهوتي .. وقد بقيت جهودهم على شكل تراث شفهي سمى فيما بعد بالتقليد الموقوف . ٭ عصر الشهداء: أما الاستبداد الروماني والتباين في فهم الكتاب المقدس فقد أديا من جهة أخرى إلى اضطهاد أنصار المذهب القبطي.. مما زاد من كثرة ضحايا هذه الحقبة التي سميت بعصر الشهداء. ويحكي التاريخ صور مهولة للتعذيب تمت على يد الجنود الرومان نختار منها تلك التي وقعت على بعض الأمهات الصلبات. يورد كتاب «صفحات من تاريخ المرأة المصرية» صوراً من العذاب وقعت على قديسات قبطيات «عذبن عذاباً شديداً من أجل تمسكهن بالدين ونشاطهن في العمل على نشره» منهن: العذراء أبلونيا التي تسلل الشيب إلى شعرها.. والشيخوخة إلى نفسها من القسوة التي واجهتها أثناء التعذيب الوحشي، أخذ الرومان يضربونها على فكيها حتى تحطمت، ثم أشعلوا ناراً خارج المدينة، وهددوها بالحرق في هذه النار إن لم تسخر من الدين المسيحي. كانت كلما إقتربت من النيران تشعر بقشعريرة شديدة، من قسوة الآلام.. ولكنها رفضت ما طلب منها.. وصمدت وتجلدت، وثبتت على موقفها .. وألقيت في النار.. وأحرقت حية». وفتاة أخرى هي فيما بعد، شهيدة يحتفل الأقباط بعيدها، وهي القديسة دميانة. آثرت حياة الرهبنة واعتزلت قصور أبيها الحاكم.. أقنعت أباها بالمسيحية، وبسببها قتل والدها على يد الإمبراطور.. عذبت مع زميلاتها ثم قتلن جميعاً. وقصص مشابهة أخرى لقديسات مثل: بربارا صاحبة الكنيسة في مصر القديمة، والقديسة بوليطة... هكذا يبدو بوضوح من قصص النساء ماذا فعلت الإمبراطورية الرومانية بالرجال. هذه الدماء وذاك الصمود عمقت تعاليم هذه الديانة في وجدان الشعب المصري، حتى أن علماء الآثار كانوا يعزون فقر المعمار الكنسي، إلى أنه كان ممولاً فقط من جيب الشعب المصري .. وربما لهذا السبب نفسه استطاعت كنيسة الإسكندرية أن تنافس الغربية. ورغم هذه الفوارق استطاعت كنيسة الإسكندرية منافسة الرومانية الغربية، وظهر ذلك جلياً في المنافسة التاريخية، عند دخول المسيحية بلاد النوبة.. زوجة الإمبراطور «ثيودورا» كانت تناصر الكنيسة القبطية، لهذا يقال إنها سبقت أنصار زوجها ببعثة تبشيرية بعثتها إلى هناك. وربما الأغرب من هذا أن المذهب القبطي عندما غزى الجنوب كان قد خرج لتوه من أتون تلك المذابح التاريخية التي حكينا بعضها.. ففي الفترة ما بين 250-305م كانت تلك المذابح، ودخول بلاد النوبة كان في 365م. شدة الاضطهاد وآلامه خلقت مقولات في الوعي برزت في النهاية كثقافة شكلت السلوك الديني للبعض، نتيجة لهذا الاضطهاد هناك من حرّم الزواج على نفسه بحجة أن الذي يثقل نفسه بأعباء الزواج وقيوده ليس لديه مقدرة أكبر على مواجهة الاضطهاد! وهناك من بنى على هذا المنطق أسئلة مثل: إذا كان الزواج للمتعة (فهل هذا وقت المتعة) أما الأطفال لماذا نتركهم للعذاب!! يذهب الأستاذ عبد الله إمام في كتابه (صفحات من تاريخ المرأة المصرية) إلى أبعد من هذا، ويقول إن هناك تقويماً قبطياً بدأ من عام 284م. وفيها أقسى عشرين عاما عاناها الأقباط من اضطهاد. هذه الألوان من العذاب المهول، دفعت الفكر القبطي إلى أبعاد سحيقة من التجريد الصوفي تتلخص في هذا السؤال: (كيف يترك الإنسان صداقة المسيح ليتحد بامرأة)! *** لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن المذهب القبطي أشتد عوده واتسعت سطوته بعد قرن من عصر الشهداء .. وبدأت هي نفسها ترتكب عمليات اضطهاد طالت المعابد الوثنية واليهود .. نستطيع أن نقول إن العصر الذهبي للكنسية الإسكندرانية كان في القرون (الرابع والخامس والسادس) ، سطوة آباء الكنيسة المرقسية بلغت أوجها في القرن الخامس عند عتبة البابا كيرلس 412 ميلادية .. وفي عهد هذا البابا قتلت عالمة الفلك والرياضيات الفيلسوفه هيباتيا على يد رجال دين متعصبين أمثال بطرس القارئ . هناك من المؤرخين من برأ البابا من التحريض، وهناك من أثبت تحريضه، ونقلت روايات الخصوم تحريضاً على لسانه فيه شيء من مساحيق الخيال نقلوا عنه قوله وهو يخاطب شعبه: (طهروا أرضكم من دنس أهل الأوثان واقطعوا ألسنة الناطقين بالشر، ألقوهم مع معاصيهم في البحر واغسلوا الآثام الجسيمة).