يعتبر الأقباط من أقدم الطوائف الدينية في وادي النيل، بل والشرق الأدنى، لم يكن المصري يُعرف لدى العرب إلا بالقبطي، حتى أولئك الذين يحاولون وضع تخريج للاسم يقولون إن (اجبتوس) الإغريقية استحالت في النطق العربي بعد حذف الألف والسين إلى (قبط)، والكلمة في اللغتين كانت تعني سكان مصر.. ومن هنا أطلقوا على مصر (إيجبت) ولكن الذي يبدو(لي) أن البحث في تاريخ العرب (الأنباط) الذين عاصروا البدايات الأولي لتاريخ الديانة القبطية، وهم كانوا في الأصل مسيحيين يتاجرون بين بلاد العرب وجنوب أوربا سيقود إلى حقائق مفيدة في عملية البحث عن المصدر الأصلي للتسمية ! بضاعة مصرية: أما القبطية فهي ثقافة دينية، تعتبر من تجليات الحضارة المصرية، عند ظهور المسيح كانت مصر ثملة برحيق الحضارات المصرية القديمة، والإغريقية (الرومانية البيزنطية)، هذه الحضارات كانت قد تعتقت في مدرسة الإسكندرية، لهذا؛ أخذت الثقافة الدينية القادمة من فلسطين مذاقاً خاصاً، شكل فيما بعد المذهب القبطي الأرثوذكسي. هذه الخصوصية المصرية- بمعنى آخر- صاغت ديانة مسيحية طبقاً للمزاج المحلي. التربة المصرية (الخصبة) أنبتت مزاجاً دينياً ذا طابع موغل في التجريد الصوفي، وذلك ربما بسبب القهر الروماني الذي كان مسلطاً على الرؤوس، المذهب المحلي رأى للمسيح طبيعة واحدة، بينما رأت الكنيسة الرومانية (الغربية) أكثر من طبيعية. هذا المزاج الديني ذو جذور في وعي الشخصية المصرية، قبل ألف ونصف عام كانت ديانة التوحيد لدي أخناتون وبعد ستة قرون بالتقريب من ظهور المذهب القبطي ظهر تجريد آخر في الحقبة الإسلامية في مدرسة ذا النون المصري، وهو أول من أدخل التذوق في معرفة الله، وذلك إيذانا بظهور التصوف الإسلامي. ربما لأن النفسية المصرية تتوق للمطلق للتماس الحاد بين النيل والصحراء أو بين الشمس والخضرة، سمي المصري ب (ابن الشمس ) أو ربما كما قال بعضهم أن(الرهبنة المصرية كانت ثورة على إهمال الريف في أسلوب الحكم الروماني). الفنون واللغة: هذا التزاوج الحضاري، في البوتقة القبطية يتخذ له بعض المؤرخين اللغة القبطية دليلاً، ويضيفون مع قراءات أخرى من الفن القبطي. تعتبر اللغة القبطية الوريثة الشرعية للغات الهيروغلوفية، وهي لغة ما زالت حية في طقوس الكنائس وصلواتها.. أما الإيقاع الهيروغليفي يلمسونه مثلاً في أسماء الشهور القبطية: توت.. بابه.. هاتور.. كيهك. اللغة القبطية قاومت للبقاء، ثارت على اليونانية في القرون الأولى للمسيحية وامتدت قوتها حتى حمل لواءها الزعيم الشعبي الأنباء شنودة . وهناك من يعتبره أعظم كتاب الأدب القبطي، انهزمت اليونانية لتبقى اللهجة الصعيدية هي سيدة الموقف . عند دخول العرب قاومتهم القبطية وظلت لغة الدواوين حتى صدور أمر التعريب القسري في عهد الوليد بن عبد الملك، في فترة المقاومة هذه استطاعت اللغة القبطية أن تفرض نفسها على العرب، يذكرون أسماء عربية كانت تتقن القبطية كالقاضي خير بن نعيم وبن خديج وغيرهم . وعندما اشتد عليهم الثقل العربي الإسلامي تعاملوا معه بسلاحهم التاريخي : على طريقة (ما يموت على السد إلا قليل الفلاحة).. تعلموا العربية ويقال إن هناك من الأقباط من غير اسمه ودرس في الأزهر. النتيجة كانت في النهاية هي لغة ثالثة لا هي بالعربية ولا هي بالقبطية.. بل هي العامية المصرية . هذه العامية تصفها الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في (الشخصية المصرية) أنها ما زالت (لغة الشعب.. لغة الكثرة.. لغة الحياة اليومية فيها الكثير من اللغة المصرية القديمة، اللغة القبطية التي عاصرت دخول اللغة العربية، والتي هي امتداد للغة الهيروغلوفية، وعامية مصر هي أعذب العاميات في الأقطار العربية وأسهلها في الفهم وأصحها أيضاً، وأيسرها وأكثرها شهرة بما ذاع من غناء مصر وإذاعاتها وفنونها في السينما والمسرح )! تعتبر أن كثيراً من الألفاظ في اللغة العامية المصرية وأسماء المدن ألفاظ قبطية (وليست ألفاظاً وحسب بل أيضاً طرائق التعبير والمصطلحات وترتيب الجمل.. فالنفي والاستفهام في العامية يجري على أسلوب اللغة القبطية، كما يطابق نطق بعض الحروف العربية نفسها، نطقها في القبطية وكذلك في الحركات) وفي قراءات أخرى لتصاوير الكنائس، هناك من وجد في تعبيرات فنان قبطي، وشيجة بين العلامة الهيروغليفية التي تعني الحياة وبين الصليب ومن ذلك يستنتج معني (الصليب هو الحياة)، ولكن هل هذا يعني أن فكرة الصليب مثلاً (شكلاً وموضوعاً) مأخوذة من الحضارة الفرعونية؟ هذه الجذور التاريخية للشخصية المصرية تغذت أيضاً بالفنون الرومانية والبيزنطية ومن بعد الفنون الإسلامية. هذا الميراث الحضاري ترك له العنان ليعبر عن نفسه في صدر الإسلام، ومعلوم مساهمات عمرو بن العاص في بناء كنيسة في مصر، ولكن في عصر عبد الملك بن مروان بدأ التضييق عليهم.. يحكون أنه أمر يقطع لسان من يتحدث بالقبطية!! لم يكتف الأقباط بإبراز فن الزخارف الذي طال حتى المساجد والكعبة، بل من الأصول القبطية خرج كم هائل من العلماء أبرزهم القارئ (ورش)، الذائع الشهرة في علم القراءات وهو معروف في شمال السودان ومصر، ومن الأدباء أمثال: ابن خديج، ابن بطريق، ابن عسال، ابن المكين صاحب كتاب تاريخ المسلمين، ابن أبي الفضائل وابن الراهب، وأبو البركات، وربن مماتي، في الدولة الأيوبية.. *** الحلقة القادمة نبحث في عصر الشهداء.