بعد ان فرغنا في الحلقات السابقة من سيرة أمهات ما قبل التاريخ وقبل أن نبدأ في سيرة الأمهات الصلبات في الحقبة الميلادية، نقرر هنا أن المرأة في كل الحقب هي نفسها المرأة التي تتطلع للسلطة: ربة منزل، أمومة، حب الزينة، حقوق زوجية، عاملة في الغزل والنسيج والصناعات. ما كان يقوله هيردوتس«500 ق . م»، هو نفسه ما يمكن أن يقال الآن أنهن كن يرتدن الأسواق ويمارسن التجارة، وربما بالغ في القول مثل: (المرأة تحمل الأثقال فوق الرؤوس والرجل على الأكتاف)، أو مثل: المرأة كانت(تتبول واقفة والرجل جالساً !!) ومما ينقله مصدرنا السابق، أنها امتلكت أكثر مما امتلك الرجل، بل كان عليهن مسؤولية إعالة الوالدين المتقاعدين. حتى في تاريخ أقدم بكثير من زمن هيردوتس ، في عهد الدولة القديمة ، في أزمان ما قبل ( 2500 ق . م )، وجدت في النصب التذكارية امرأة كانت في وظيفة «مديرة أطباء»، وكانت كما نقل عنها كتاب «المرأة المصرية القديمة» تمتلك مكتبات خاصة ومولعة بالعلوم والفنون. أما في فترة الدولة الوسطى ما قبل القرن السادس عشر قبل الميلاد، اتسعت فرص عمل المرأة، حتى شملت وظيفة كاتب ومغنية ومربية. ورغم أن الرجل كان يتزوج بأخته بدواعي التوريث السياسي، إلا أن الأمور كانت تسير كما تسير الآن، من حيث: الزواج المبكر، والاهتمام بالزينة، الطلاق، ومؤخر الصداق، وتعدد الزوجات، ومن غرائب ما ينقل من هناك، أن الزوجة كان عليها ثلث نفقة المنزل. حتى الزينة والعطور، كانوا يحتفلون بها كما نحتفل بها الآن، ومما ينقل عنهم في ذاك قولهم أن: «العطر ينعش القلب» أو أن الدهن غذاء الأجساد. أما ما تعج به كتب الأدب المصري القديم من نصائح وحكم في الحب والزواج والواجبات هي نفسها ما يقرأ الآن . والخلاصة النهائية أن المرأة في الخمسة آلاف عام السابقة، كانت تتأخر بتأخر المجتمع ويتقدم حالها بازدهار المجتمعات. أمهات التاريخ الميلادي العذراء هي مريم ابنة عمران أم السيد المسيح (عليه السلام)، لم تكن من نساء وادي النيل ، ولكن هذا المكان أصبح جزءاً من تاريخ المسيحية ،لأنها التجأت إليه ومكثت ثلاث سنوات بطفلها المسيح هرباً من الإبادة الجماعية التي قادها إمبراطور الرومان. تتفنن الروايات المسيحية في سرد صنوف العذاب التي كابدتها. منذ الوهلة الأولى تقرأ المعاناة على اللوحة المقدسة ، عندما تراها مع حمارها وطفلها ويمشي خلفهم رجل في إعياء . بدأت بطفلة تخدم الهيكل منذ عمر الثلاث سنوات، ثم استمرت في ذلك حتى السنة التاسعة. تصل الآلام قمتها، وهم يصورونها وهي تبحث وسط أحراش وجبال فلسطين عن مكان تضع فيه وليدها. لم تجد في نهاية المطاف مكاناً ملائماً إلا (مزود حيوانات) لتضع فيه وليدها. والثابت -عندنا -أنها وضعته في جذع نخلة - وتبلغ المأساة ذروتها - طبقاً للمسيحيين- عندما رأت ابنها بأم عينيها مقتولاً على الصليب!!. أغلب هذه الأحداث كانت خارج وادي النيل ولكن فترة السنوات الثلاث ، كانت كافية لتسجيلها في تاريخ نساء وادي النيل ، لأنها حملت الكثير من معاناتها. وهي إن كانت إلهة أو قديسة، فقد بلغت في تحمل المعاناة ما لم تبلغه امرأة. نماذج قبطية: في القرن الثالث الميلادي، أثناء اضطهاد الديانة القبطية من قبل الإمبراطور الروماني، ظهرت نماذج نسائية في غاية الصلابة. هذه الحقبة سميت بعصر الشهداء من كثرة من قتلهم الإمبراطور الروماني. عن صلابة الأمهات الشهيدات اللائي واجهن التعذيب ، تحكي الروايات عن شهيدة مسيحية تسمى«أبو لونيا» عُذبت حتى تحطمت أسنانها من جراء ضربات الجنود الرومان !! لم يكتفوا بذلك بل أشعلوا ناراً ، وطلبوا منها لكي تنجو منها أن تسخر من دينها ولكن أصرت على رفضها حتى قتلوها حرقاً !!. وهناك قديسة أخرى تسمى (دميانة)، ابنة أحد الحكام المحليين ، عذبت حتى قتلت . يحتفل بها الأقباط حتى اليوم . أما (أرمانوسة ) جرجس ، وهي فتاة مصرية قبطية أخرى ، خلعت ثوب زفافها ، ودخلت المعركة ضد جيش المسلمين ، أسرها الصحابي الجليل عمرو بن العاص وأعادها معززة مكرمة لوالدها . نسجت حولها الأساطير، فقد قيل أن مهرها كان كل ديون مصر لدى الإمبراطور الروماني. قبل أن ترجع تاركة قافلة الزفاف وكانت قد زفّت لابن هرقل. أما (مارية) و(شيرين) فقد كانتا أكثر أمهات وادي النيل حظاً. في القرن السادس الميلادي أسلمتا وتزوجتا. الأولى تزوجها أكرم خلق الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والثانية كانت من نصيب الصحابي حسان بن ثابت. أرسلهما المقوقس كهدايا إلى نبي الإسلام. ماريا التي أصبحت أم المؤمنين، أنجبت للرسول صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم(مات بعد عام ونصف)، وعاشت حتى سنة خمس عشرة من الهجرة. صلابة مسلمة في هذه الحقبة وهي نهايات القرن السابع الميلادي، لابد أن نقف على سيرة (أم) بلغت صلابتها درجة غير معهودة. ورغم أنها لم تكن من نساء وادي النيل، إلا أن الثقافة الدينية هي التي صاغت الصلابة في هذه الأم، نفسها الضامنة لكل تجارب الأمهات الصلبات بعد هذا القرن في وادي النيل، هي أسماء بنت أبي بكر (أول الخلفاء الراشدين). نصحت ابنها ليتقدم للموت عندما حاصره الحجاج بن يوسف في مكة. استمر حصار الحجاج لمكة ثمانية ، أشهر وسبع عشرة ليلة حتى فقد عبد الله بن الزبير كل أنصاره إلا المخلصين. دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر وكانت قد بلغت المائة ليأخذ برأيها في الصمود أو الاستسلام. يقول الطبري أنها قالت له: (.. إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك يتلاعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل دين، وكم سيخلدوك في الدنيا؟