71 من الفارين من أوطان النيران والقهر والإذلال، كان مصيرهم مأساويا: تجمدوا حتى الموت، في شاحنة لنقل اللحوم المبردة، جنوب شرق العاصمة النمساوية، فيينا. أترك لكم تصور، لحظات الإحتضار، والشاحنة ثلج.. ويد الموت- منذ أن كان الموت- دائما باردة. لا أعرف جنسياتهم، لكنهم في النهاية، يحملون هوية وآحدة، وهوية أن تكون بشرا، هى الهوية التي لا تحدها حدود.. ولو كانت تحدها، لما كان هؤلاء قد فروا من البشر الوحوش، إلى ماوراء البشر البشر! أترك لكم تصور، أن تموت- أمد الله في أيامك- في شاحنة مثلجة.. أترك لك تصوّر نزعك. أترك لك تصوّر- وأنت في النزع الأخير في البلد الغريب- أن ليس من نائحة لك، ولا من باك، ولا مترحم! تصورتهم، وآحدا وآحدا. آه ياصحاب، ما أفجع أن يبكي المرء نفسه.. أن يرثيها، وهو يرتجف كله، موتا، في البلد الغريب! تجمّدوا.. وتجمدت الشرطة، وهى تمد عينيها في داخل الشاحنة، وتجمّدت النمسا كلها، فاجعة. زمان الفجيعة، هو أيضا زمان الصلاة... وهو أيضا زمان التأبين. صلت النمسا، من مستشارها «فيرنير فايمان» إلى حارس بوابة كاتدرائية «شتيفانز دوم» التاريخية، الذي لا أعرف اسمه، وأقامت مراسم تأبين، والشموع تبكي، ومناديل الورق تتبلل بالدمع السخين. الموت، هو الموت.. وفي موت أنسان، موت للآخر.. لكن، لولا دفع الله الناس-بعضهم ببعض- لفسدت الأرض. تصورتهم- والشموع تتراقص موتا- كل وآحد منهم، كان يتصور مصير كل وآحد من الذين، كان يتنازعه الموت ثلجا، في شاحنة الموت! كان ذلك التصور نوعا من العزاء،والموتى.. من قال ياصحاب، أنهم لا يسمعون التعازي في موتهم؟ أجمل التعازي، كانت من كاردينال فيينا، «كريستوف شونبورن». نظر إلى شمعة روحها قد بلغت الحلقوم، وقال في صوت تتعتعه غصات: « أيها المؤمنون، كفى مايحدث من موت وكراهية واضطهاد. أيها المؤمنون: من كان يظن أن هويتنا الأوربية قد تتأثر بعاصفة المهاجرين، فليظن شيئا آخر. هويتنا تتأثر بفقدان الإنسانية». النمسا، بهذا التأبين الأنساني، لأناس ليسوا منها، ارتفعت درجات في مقام الإنسانية. .... وكانت الشموع لا تزال تبكي، والمناديل بلل، حين راحت كل أجراس كنائس فيينا تدق 71 دقة، كل دقة كانت.. كانت برائحة الحنوط!