تتقاذف الحروف بداية.. لتستوي على كلمة، ومن ثم إلى جملة مفيدة، وعبارة مكتملة، وبعض الكلمات والعبارات موسمية، وعندما تقتضي المناسبة .. ثم تختفي وتزوى إلى حين.. وأقرب مثال على ذلك كلمة (تجنيب).. والتي أخذت حظها من الذيوع والشهرة مؤخراً، ولم تكن مطروقة ومعروفة من قبل، وأحسب أنها أخذت من مفردة (الاحتياطي) في عالم المال والحسابات .. إذ كانت القوانين المالية تسمح باحتياطي نقدية تبقى بالخزن لدواعي تسيير العمل، بعد أن تخضع لمعايير حسابية من واقع الحال- وليس اعتباطاً.. وهذه المعايير حسابية التي تمنع إيراد الكاش إلى الخزينة، أو تخصم جزءاً منها لتبقى بخزائن الفروع من الدقة، بحيث أن المبالغ المحددة لها لا تتم إلا بعد دراسة وافية يقوم بها مختصون، وبعد مراجعة أرانيك الإحصاء الخاصة بالمرفق المعني، والتي كانت لها الأهمية القصوى. أما عبارة «الدولة العميقة» والتي نحن بصدد الحديث عنها وسبر أغوارها.. فقد بدأت وكأنها عبارة مستحدثة.. وأخذت حظها من الذيوع والشهرة إبان الأحداث العاصفة في جمهورية مصر الشقيقة.. والتي أودت بنظام الأخوان برئاسة الدكتور محمد مرسي العياط، وذلك إثر الانقلاب على سلطة شرعية اعتلت سدة الحكم، بموجب انتخابات نظيفة أمام أعين ومرأى العالم .. ولم تكن كسابقاتها من عمليات صورية تسمى زوراً وبهتاناً بانتخابات أو استفتاءات.. وفي خلال نصف القرن الماضي.. وبعد نجاح ثورة 23 يوليو- جرت الأعمال الانتخابية والاستفتاءات على نسق ونهج تحمل في طياتها الصور العبثية، والنفاق السياسي.. وخير ما نستدل به على مدى الاستخفاف بالعقول أن نطلع على المقال الذي نشر بجريدة الأهرام العدد الصادر في 26 يوليو 1956 - الذي نشرت فيه نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد وعلى رئاسة الجمهورية.. وقد حصل عبدالناصر على 99.9%. ونتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد هي 98.8% في صف الموافقين عليه.. وفي محاولة محمومة لإقناع الشعب المصري بنزاهة عمليتي الاستفتاء عمدت الصحيفة المشار إليها والصحف الأخرى إلى نشر تفاصيل بالأرقام- على النحو التالي:- «فاز الرئيس جمال عبدالناصر برئاسة الجمهورية بنسبة عددية قدرها 5.494.555 ونسبة مئوية قدرها 99.9 وهو فوز إجماعي ساحق، بل وفوز تاريخي لم يحصل عليه مرشح ما في أي انتخابات ولم يتح مثله لرئيس أو زعيم... الخ. وتتجلى المصداقة التي خنقت وذبحت بفضل العناية الإلهية.. وتجد لها متنفساً بالكاد في السطر الأخير (لم يتح مثله لرئيس أو زعيم). وقد لعبت ما يعرف بالدولة العميقة الدور الأساسي في ذهاب سلطة مرسي وحكومته.. إذ حركت الأحداث من خلف الكواليس ببراعة ودهاء، ونجحت في عمليات التعبئة الجماهيرية التي ملأت الساحات، صابة جام غضبها على السلطة، والتي أتت بها على سدة الحكم عن إقناع بعد طول انتظار، حدث هذا الانقلاب والسلطة الشرعية تتلمس طريقها، وتبحث عن وسائل كيفية إدارة الدولة، وهذا الموقف طبق الأصل عن ما يحدث عندنا، حيث أن الأحزاب وما يسمى بالحكومات الوطنية لم تتبلور أفكارها وأجندتها على الواقع منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا لأسباب معروفة، ومن الملاحظ أن الدولة العميقة صاحبت حكومات وزعماء ثورة 23 يوليو منذ البداية، تحت مسمى (مراكز القوة)، والتي رأت النور لأول مرة في تاريخ مصر السياسي بسبب القلق والانزعاج من تزايد نفوذ الجماعة القوية الملتفة حول المشير عامر، والتي يرأسها شمس بدران، بعد سيطرت على مقادير القوات المسلحة، وجعلت منها قوة مخيفة روعت عبدالناصر نفسه.وقد انبرى سامي شرف وعمل جاهداً أن يجعل لنفسه وبعض أعوانه مركز قوة ثاني في المجال المدني في محاولة منه للتصدي لجموعة المشير وشمس بدران. حتى لا تخرج نفوذها عن نطاق القوات المسلحة، وقد تمكن الرئيس عبدالناصر من تصفية نفوذ عبدالحكيم وأعوانه، بعد أن ضاعت فوق رمال سيناء المحرقة كرامة الأمة العربية وعزتها من خلال مأساة يونيو عام 1967م. وخلا الجو تماماً بعد ذلك للجماعة التي قدر عبدالناصر أن يوكل إليها مسؤولية حكم البلاد (جماعة سامي شرف) حتى وفاته.. حيث تم القضاء عليهم فيما يعرف بأحداث 15 مايو. التي أطلق عليها السادات اسم ثورة التصحيح. ولعل ما يجدر بنا هنا، أن نلاحظ وجه الشبه بين (مراكز القوة) ورصيفتها (الدولة العميقة).. بقدر ما نلاحظ الفرق بينهما حين نغربلها على أرض الواقع.. فالعبارة الأولى تهدف وترمي إلى الصراع حول السلطة، والثانية تنعم بالسلطة والاستقرار وتعمل بحذر دون الخروج على قوانين الدولة. نلمس ذلك بوضوح من خلال تصريحات بعض المتنفذين- عن وجود جهات تعيق تنفيذ سياسات عليا بحيث لا ترف لها جفن- وهي تفعل ذلك! ولا يمكن أن ننهي هذا المقال دون الإشارة إلى قاعدة بدهية- تشير إلى أن طبيعة أنظمة الحكم هي التي تتسبب في نمو مراكز القوة- وخلق دولة موازية تعرف (بالعميقة) بكامل وعيها وإدراكها، وذلك بخلق الظروف الملائمة لمثل هذه المنقصِّات.