للمهاجرين، حين ينفلتون من السطوتين، إلى سطوتين، وأرواحهم عذاب! لئن تفارق حبيبا، هو أن تموت بعض الشئ، والمكانُ حبيب، وكذا الزمان، فيا.. يا للمهاجرين، من هذا الموت بعض الشئ، إذا ما أنجتهم قورابُ الموت، من الموت كل الشئ في اليّم! متاع قليل، وكلُ الذكريات، وهم إلى البلدان الغريبة، فما أحرّ الذكرى في البلاد « التي تموت من البرد حيتانها».. ومتاعُ الدنيا- منذ ان كانت الدنيا- هو القليلُ.. وهو الغليلُ! تخيلتُ حالي، لو كنتُ بينهم، في البلد الغريب، وإنفلتُ منهم بذاكرتي، إلى المكان الذي كان، والزمان الذي كان- وفي الإثنين حب كان وأحباب- فزفرتُ أسى، وتأسيتُ: «آه يازمان الوصل بالأندلس»! في حياة كل منا، اندلسٌ في حياته، فيا.. يالوجع الذكرى، في البلد الغريب.. ويا.. يالوجع الذكرى- والروحُ تغرغرُ- في النهاية- في الحلقوم! أندلس كان..كان قبضُ يقين، وهاهو الآن يصير مجرد خيال يتراءى في البعيد، ومجرد حنين! أتخيلهم. كل منهم يرتدّ به الحنين إلى الأحباب,, إلى الحبيبة.. وطريق الرجعى صار أصعب. الحنينُ مطية أهل مكابدة الأشواق اللافحة، في المكان والزمان الغريبين.. الحنينُ هو، ردة عاطفية وروحية وشعورية.. الحنينُ هو إحساسك الداخلي، أنك في مكان وزمان، لا تتنفسُ فيهما أنت الآن.. الحنينُ هو أن تتنفس مكانا وزمانا برئتى ذاكرتك. هو أن تشم بأنف تلك الذاكرة روائح كانت، وتتذوق بحاسة ذوق تلك الذاكرة طعوما كانت، وترخي أذن تلك الذاكرة لكلام كان، وهمسات، وضحكات.. هو أن ترى بعين تلك الذاكرة المكان، بكل مافيه من ناس ونبات وحيوان وجماد وأشياء.. هو أن تصير أنت معنويا- بجسدك الذي لا تراه- في مكان وزمان- ليس هو المكانُ ولا الزمانُ، الذي يمكن أن يتراى لك فيه جسدك هذا.. جسدك الذي له ظل الآن! لن يعودوا، إلا لماما.. وللمكان والزمان الجديدين سطوتان.. لكنهم، بين كل فينه وأخرى يمتطون صهوة الحنين- رغما عنهم- للمكان الذي كان.. والزمان الذي كان. آه من تلكما السطوتين.. آه من كل مكان ومكان.. من كل زمان وزمان. آه من كل هذا الرحيل المُر.. من كل هذا الترحال، والمتاع قليلٌ.. وغليل. آه من الرحيل، الذي ليس من بعده رحيل!