مدينتي.. وبلدتي الجميلة القديمة.. دائماً ما تفتضح خيالي.. تعيدني للتحديق والتحليق والتشويق الطفولي وبتلك البراءة المنثورة في دواخلنا نصحبها معاً صباحاً وترنيها مساءً لأنها تلازمنا تراودنا بإلحاح مبكٍ وعاطفي ومثقل بالذكريات رغم البعد والابتعاد. مدينتي.. وبلدتي القديمة.. مشاهدها في دائرة الإبصار.. تفجر تلك الكوامن بأشعار وتوظف العواطف عند ملتقى الأسهار.. وتجعل المرء يحلق بلا أجنحة دون إنذار لسفر بعيد أو عناد قد يطول.. أو معصية تهز الذات فتضيق أوجه الحياة وتنهزم الأماني المشرئبة وتفتر المناجاة وتنحبس الأحلام الوردية لتتوه التطلعات في وسط المدن الحديثة التي غاب في داخلها أبناؤها وهم كثر هنا في عاصمة الإجماع البشري. مدينتي القديمة مظهرها الآن يبعث في الدواخل عذوبة الماضي بكل أشكاله وتضاريسه ومعتقداته وسكناته، وعيون أهلها القابعين فيها مستقرة برضاءات الحمد والثناء تناجي روح التوافق في مظلة العلاقات العاصمية.. فكلما كان هناك حدث بعينه أحس أن هناك أيادٍ بيضاء قد لامست ظهر معاناتها.. وكلما تباعدت الأماني المنتظرة عنها أحس بمرارات الجميع فتبدو مدينتي القديمة على ما هي عليه الآن.. علها تنتظر من يقول لها هأنذا.. ومن ثم تعود سيرتها الأولى.. كيف تأتي تلك اللحظة؟! أقول.. مدينتي.. وبلدتي القديمة.. هي «بربر» تجسدت فيها كل روايات وأوراق التاريخ تضج في أضابير ملفات الاستباق لمواقف أنارت تلك الصفحات لتكون بربر القديمة «المخيرف» عيوناً تنظر وراء ذلك التاريخ ومن ثم انطلقت منها كل الثقافات أياً كانت والأنشطة الاقتصادية والتجارية واكتسبت حضوراً متميزاً حين كانت قبلته للعلم وضعت برجالها الرؤية التجارية بعيون القاصدين في زمان أخفى الكثير من نشاطه المتسع والقادم أصلاً من بوابة الشمال مصر وغيرها من بلاد العرب.. أنزاك.. ومغاربة فقد حملوا حقائبهم ما قبل الحكم التركي 1821 وقرروا البقاء فيها لأهميتها كبوابة تفضي إلى أرض الحجاز عبر ميناء سواكن القديمة. أقول ليس أنا الآن في سرد تاريخي ولكن أخذت جزئية منه، فقد كانت بربر في تلك الحقبة التاريخية ملتقى لكل الأجناس دون أهلها لتشكل هذه الظاهرة مزيجاً من الأحباس من شمال وغرب أفريقيا فارتقت عندها النهضة السودانية بكل تفاصيلها ومسمياتها وكادت تكون عاصمة للسودان.. لأنها منارة للعلم وكم هائل من الرعيل سعى إليها راغباً في العلم.. لتكون المدرسة الجنوبية الإبتدائية شاهداً حصرياً لذاك التدفق الطلابي منذ عام 1904م من كل حدب وصوب. أقول تلك الإضاءات وفي تلك الحقبة أعطت بربر صفة الوجه المشرق لكل أهل السودان لتكون هي آلية الإفراز الحقيقي للتعريف العلمي.. والثقافي.. والتجاري داخل هذا الوطن الجميل.. فتوالت وتلاحقت المشاهد ما بين بربر وأم درمان لتكون الهجرة الأولى لأهلها هي صوب أم درمان ومن ثم إلى مدن السودان المختلفة.. دوافعهم ربط منظومة النشاط التجاري ما بين بربر وأم درمان وبورتسودان تأميناً للنهضة التجارية والاقتصادية وغيرها، وبالفعل استطاع ذلك الجيل من أبناء بربر أن يتمدد في أنحاء السودان مع الأجناس الأخرى المستوطنة ويرسوا رؤيتهم دون تقليل لهم بقدر ما هو ثقافة الإقتران نجاحات واحدة وتلك حقيقة اعترافية لا جدال فيها، لأن بربر في تلك الحقبة دونت ثقافتها الشاملة وكتبت على نفسها الوجود في كل مدن السودان إذا سألت عن المبرزين فيها يكون ردهم.. «نحن أصلاً من بربر». بربر مدينتي القديمة عبر تاريخنا الطويل أعطتنا أفضل النماذج الناجحة في كل ضروب الحياة.. وهم كثر.. مما جعلني في هذا المقام أستشهد ببعض الأسماء وأترك لحصافة القاريء أن يؤمن لما جاء في قولي. أقول.. البروفيسور أحمد محمد الحسن ساكتابي أحد رموز الطب في السودان ومكتشف علاج مرض الكلذار أحد الأمراض المستوطنة.. وأول وزير للتعليم العالي في عهد مايو.. وهناك أحمد علي قنيف موسوعة علم الزراعة ووزيرها في وقت سابق.. وتتوالى عليكم الأسماء مهدي الفكي.. أحمد عبد الرحمن محمد - أحمد عبد الرحمن الشيخ- الفريق الدابي- الفريق الطاهر عبد الرحمن- اللواء أبوبكر دنبلاب - الأستاذ محمد الأمين الغبشاوي- معتصم علي أبشر- قدور- الوزير حسن عبد القادر هلال - دكتور عبد الرحمن أيوبي- عبد الرحمن حسن عبد الرحمن محافظ بنك السودان - الصحفي الشجاع محمد مدني توفيق- فريق عيسى كاسباوي- العميد محمد خواجه- السفير عمر شونه- مأمون حميدة- عمر الجزلي- عبد العزيز داؤود- أنس العاقب- مجذوب أونسة- جلال الصحافة- بسطاوي لاعب الهلال السابق والسياسي عمر مصطفى المكي- علي همشري- عماد البليك= د. أحمد عدلان الفاضلابي - عائشة الغبشاوي- سامية أحمد- إبراهيم العبادي- الفراش- نافع المكي- أبو علي والقائمة تطول وتطول- وعذراً لمن لم أذكرهم فهم روائع في ذاكرة تاريخ المدينة. أقول ما شدني.. هو التقائي بأحد أبناء بربر مجاهد أبو سبعة في مناسبة بأم درمان وقال لي بالحرف الواحد.. معتمد بربر الجديد صلاح حسن سعيد وضع يده بقوة على هذه المدينة وقد أسعدني هذا الحديث فآثرت أن أشيد بعظمة ومكانة هؤلاء.. علهم يتنادون بوعد جديد. دمتم