وأمان الله منا يا منايا.. كلما اشتقت لميمون المحيا ذي البشائر.. الحليم العف كالأنسام عطراً وسجايا .. مغالبة الدموع فى البرية قديم (ولا نقول إلا ما يرضي الله) وكذلك البحث عن سلوى بالتماس الوفاء واستدعاء الذكرى النبيلة ربما هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، تلهم الإنسان نوازع العمل الصالح الذى يكون له حياة من بعد حياة، في السرادق المزدحم كان طيفه هو الأكثر حضوراً، تماماً مثلما ألفه الناس فى كل السرادقات، كأنما الشاعر (صلاح أحمد إبراهيم) يقصده هو تحديداً (ميمون المحيا، ذي البشائر، عفيف، كالأنسام عطراً وسجايا) إعلامي صحافي أخو إخوان، شق نبأ رحيله فجأة مع دوران المطابع فجر الثلاثاء الثالث من العشر الأوائل من ذي الحجة عام 1431 من الهجرة النبوية الشريفة(9 نوفمبر 2010). تدور المطابع والأيام ليحين ميقات الرحيل المكتوب، فلا حول ولا قوة إلا بالله، هذا التسليم بقضاء الله وقدره كان ديدن(عمر) كما عرفناه فى الشدائد، ينزع دائماً للحكمة، يلتمس للناس السلوى في خير آخر أعم وأبقى يدخره الله تعالى لمن اصطفاه بعد أن أعانه على عمل الخير وحسن التواصل مع العباد، هذه جملة سيرته كما عرفته، جعل الله ذلك كله فى ميزان حسناته، فشهادة الخلق للمخلوق وجزاء المعروف من عند الله مذكور بين العباد. عرفت عطاءه ووفاءه ودفء مودته منذ قدم من عطبرة يافعاً في السبعينيات، فنشأ في كنف الدولة والمجتمع والإعلام والصحافة والسياسة التي يراها دائماً بمنظور (الوطنية)، وأصبح مرتبطاً برموز كل هذه الفئات إلى آخر لحظة كما شهدت مواكب الوداع، حيث تتعجب كيف احتفظ بعلاقاته هكذا حميمة مع الكل، حتى جعل كلاً منهم يحسب أن عمر كان صديقاً له وحده، وهذا شعوري أيضاً. عرفته عام 1973 من خلال عمله والتصاقه بالأستاذ مهدي مصطفى الهادي كرجل دولة من طراز فريد برئاسة الجمهورية، ثم محافظاً لمديرية الخرطوم ببصمات باقية، اكتسب عمر جملة خصائص جمعت بين الدبلوماسية والتعامل بالمعلومات ومنابع الحكمة وحسن التصرف والحيوية والإنضباط، أهلته لإتقان العمل العام، وكسب احترام الناس ومودتهم، كما لمست فيه طوال تعاملي معه. إنه يسيطر على اهتمامك ويجبرك على الإعتقاد بأنك وحدك في وجدانه، وهو أسلوب سايكولوجي وقيمي معروف في كسب الناس، تخصص في صناعة الأصدقاء ومن كل الفئات، الإعلام، الصحافة، الرياضة، الفن، السياسة والمجتمع ككل، والدليل من التقوا لتشييعه وتأبينه، وما قيل في حقه اعترافاً بإنسانياته حتى تعاظم الإحساس بالفقد والشعور بحاجة المجتمع والدولة لأناس من طرازه. في ليلة تأبينه الناس يبحثون عن سلوى ومكانه بينهم شاغر، فلا يجدون عزاء إلا فى استرجاع سيرته الإستثنائية وفيما عرفوا فيه من(إيمانيات) عميقة، خاصة في مواجهة الشدائد والأحزان وإن كانت تتصل بأقرب الأقربين له، وكثيراً ما كانت أسرار الخلق وكسب الرزق والتوكل على الله مدار التأمل بيننا في المعاني التعليمية في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وله إشاراته الذكية ومنها أتذكر وقفاته عند معاني ما ورد في سورة يوسف من عظات ودروس في الإحتياط للأمر ثم التوكل على الله (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون)- الآية 68، أما الأحاديث النبوية فمنها نفهم كيف نسأل لنتعلم كالحديث الشريف الذي يختتمه بقوله صلى الله عليه وسلم (هذا جبريل جاء يعلمكم أمور دينكم)، إني أذكره بهذا، واذكر له انشغاله الدائم بالتذكرة بالقيم والأصول التي ينبغي أن تحكم تعامل الناس يومياً ليسلموا من المكدرات والقلق. وله نماذج شتى من البشر يعرفها وحده دون أن يبوح بسرها، لكنه يفاخر بمن أعجب بكفاحهم وتميزهم ويروج لهم بأسلوبه الخاص، لقد تعرفت بفضله على بعضهم، يحدثني وكأنه تخصص في كشف أسرار البشر فيقول (معرفة الناس ما بتجي بالمال، وإلا زي فلان ده عشان تكسب صداقته كان تملا الضهرية قروش وتمشي ليه)! وكان هو ممن ينطبق عليهم هذا القول، سعدت بأخوته وزمالته وصداقته لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان بلا انقطاع أو فتور أو ظنون مما يعكر صفاء الناس جراء أوضاع الدنيا المتغيرة، بل أصبحت الوشائج أسرية. كان يميل أكثر نحو الأبناء، يخاويهم ويصادقهم وكأنهم من جيله حتى أن ابني وقد بلغه الخبر بالمدينة المنورة هاتفني معزياً وحدثني عن آخر لقاء بينهما بما حفل من تفاصيل، وكان قبل أيام قليلة فى مأتم جدة زميله في كلية العلوم بجامعة الخرطوم محمد غازي صلاح الدين، عليها رحمة الله، ذكرني ذلك آخر لقاء بمنزلهم، حيث حدثني مسروراً بالأوضاع الدراسية لأبنائه. قلت لابنه محمد وقد مددت له الجوال (سجل لي رقمك، أحسن أهاتفك إنت، أبوك مشغول)، وكل من عرفه يدرك أنها صفته الغالبة (مشغول)، ولكن في غير مصالحه الذاتية، مشغول حتى عن نفسه التي بين جنبيه كما وضح أخيراً. ابنته خريجة طب جامعة الخرطوم قريباً كانت وحدها تعرف ما يحتمل والدها من آلام طارئة، مستسلماً لزحام برنامجه اليومي من التاسعة صباحاً إلى وقت صلاة الفجر كما قال صديقه عبد الباسط سبدرات لدى تأبينه، وفيه أعلن صديقه هاشم الجاز أن ولاية الخرطوم بادرت وأصدرت قراراً بالوفاء لعمر بمقدار عطائه الذي ما عرف أحد حداً له، فلعله يكون أول الغيث.رحم الله عمر محمد الحسن وداعة، وتقبل أعماله ما علمنا منها وما لم نعلم، وقد ابتغى بها خير البلاد والعباد. ونختم بحكمة كان يكررها كأنه يحرضني لأن أعمل بها، إنها جزء من قناعاته التي لم تتزحزح أبداً (التفاؤل، اليقين، الاحتساب).. تقول الحكمة: (قد تأتيك السعادة من نافذة كنت نسيت وتركتها مفتوحة).