العيب ليس في الديمقراطية وإنما في غياب الديمقراطيين..الديقراطية لن تخلق التغيير، لكنها تخلق الظرف المواتي للتغيير..الفرقٌ كبير وشاسع بين الحكم العسكري والمدني، لكن السودان في طفولته التي لا تنتهي، وتجاربه «الديمقراطية» قصيرة الأجل، والحلقة المفقودة في مجتمعنا هي غياب الطبقة الوسطي- المستنيرة- التي توازن بين الديمقراطية والتنمية.. فهل هي مصادفة، أن يبقى عبّود في السلطة 6 سنوات، بينما تبقى مايو 16 سنة، فتتبعها الرادفة - حتى تاريخه- ب 26 سنة..؟! هل هي مصادفة، أن تتوق قوى التغيير إلى الحكم المدني فتستعيده، ثم تردد نفس «الاكتوبريات» عندما تفتقده..؟ الفرق بين المديدة والعصيدة قبضة دقيق.. لكن ليس ممكناً تمجيد دكتاتورية بأنها أقل بشاعة من الأخرى، لكن من الممكن تقييم طبيعة كل نظام، فتبقى الفروقات بين نظام إنقلابي وآخر محض فروقات، وليست مآثر.. كان عبّود عسكرياً مهنياً، بينما صنع نظام نميري، الإتحاد الاشتراكي كغطاء مدني.. ثم طال الظلام إثر إختراق القوى التقليدية بعسكرة البلاد وتحطيم القوى الحديثة ونقاباتها، تحت غطاء المقدس وممارسة الشعوذة السياسية ممزوجة بالقمع. الفرق بين الطفرات الثلاث، أن الأول كان إنقلاباً غير مؤدلج حتى رحيله، أما الثاني فقد أردفها خلال مسيرته، وجاء الثالث ليحملها على ظهره، حتى أرهقته..! عند تقييم تجربة عبود، ينبغي أولاً النظر إلى أنه: إفترع الحلقة الشريرة.. هو من علّم صبية العسكر الانقلابات.. هو من بدأ سياسة الأسلمة والتعريب وتبني الحل العسكري في الجنوب.. عبود إنقلابي مافي كلام، وموالي للطائفية مافي كلام، لكن برضو كان إنسان طيِّب.. عندما ثار السودانيون في وجهه «لمْلَمْ عَفشو طوّالي»..لا خير في الإنقلاب العسكري، وإن جاء بالمن والسلوى.. لقد ارتكب نظام نوفمبر، جريمة إغراق حلفا.. باع الأرض والتراث والتاريخ.. وارتكبت مايو العديد من الجرائم، آخرها كان التستر على مجاعة 1948م، أما أهل الرادفة، فقد فاقت جرائمهم الأولين والآخرين.. لم لا يحاول السودانيون قراءة أكتوبر من زاوية مغايرة؟ لقد ذهب عبود فركبتنا الطائفية وهي أسوأ..! عساكر نوفمبر كانوا «أولاد ناس»، وقصة عبود بعد تنازله عن السلطة، في سوق الخضار في بحري معروفة.. عبود تنازل عن حلفا «رجالة كدي» وعندما حرك المصريون جيوشهم تجاه «حلايب» اضطرهم للتراجع برضو «رجالة كدي».. من «مآثر» عبود أنه، جاء الى السلطة بدعوة «كريمة» من أحد الأحزاب السياسية، وغادرها بطلب «كريم» من الشعب كله..! من حسناته أيضاً، أنه كان عسكرياً منذ لحظة ظهوره في القصر وحتى دخوله القبر.. طاف عبّود أغلب مناطق السودان البعيدة، وذرف على حلفا بعض الدموع، وأعطى أهلها بعض التعويضات، وتسلّم المعونة وبنى بها الكوبري والشارع.. رغم ديكتاتوريته ودكتاتوريتهم، إلا أنهم كانوا أولاد ناس، لم يكتنزوا ولم يفسدوا ولم يسرقوا.. عبّود لم يتكسب من المنصب.. أتى إليه فريقاً وغادره فريقاً، ولم يضف إلى نفسه كلمة «أول»، رغم أنه الأول والأنظف، مقارنة بالانقلابات التي وقعت في بلادنا.. كان بيته هو نفس بيته، عندما كان ضابطاً.. في عهده، كان طعام الغني والمسكين متقارباً، وكان- وهو الرئيس- يعيش بمستوى أقل من جيرانه الأطباء.. كان يُستقبل بحفاوة.. استقبل استقبال الملوك في بريطانيا وأمريكا وروسيا، رغم أنه رئيس غير ديمقراطي.. لقد ترك عبّود- عليه الرحمة- خزينة الدولة ممتلئة فافرغها الذين جاءوا من بعده.. المأثرة الكبرى لعبّود أنّه حقن دماء السودانيين وغادر السلطة طائعاً لإرادة الناس، ولم يفعل مثل بشار الأسد.. أنظر ماذا يفعل بشّار..! هل كان من الممكن إصلاح نظام نوفمبر، بدلاً من اسقاطه، طالما كان على قمته أناس بمثل هذه الوطنية والنزاهة..!؟هل هذا هو ما يحاوله النظام الآن، عن طريق «الحوار الوطني» في قاعة الصداقة..؟