نكهة العيد خارج الخرطوم مختلفة إذ مساحات الألفة والتقارب والتوادد تبث فى حياة الكافة المحبة والسكينة ولذا يأتى بطعمه الأصيل ربما هو الحنين لأيام الصبا ولذكريات محفورة عن أجواء البلد ببساطتها وسجيتها ففى العيد يتساوى الأبناء فى أزيائهم جلاليب بيضاء وعمائم وأحذية من صنع شركات الأحذية السودانية «باتا ولاركو» والجيوب ترن بداخلها قطع النقود المعدنية من التعريفة والقرش والقرشين (الفرينى) والشلن (خمسة قروش) والريال وهى العيدية التى تزيد الفرح فى قلوب الصغار والصبية كذلك . والعيد الكبير ينتظر فيه الكبار والصغار خطبة العيد لسماع رواية سيدنا ابراهيم مع إبنه اسماعيل التى تروى فى قالب درامى فيه التشويق والحبكة والعقدة وفكها ويتوج ذلك كله بذبح الأضحية ويتبادل الناس الطعام واللحوم ويهتدون بالسنة فى تقسيم لحم الأضحية الى ثلاثة أقسام ثلث للأكل وثلث للصدقة وثلث للإدخار والثلث الذى يدخر تتم معالجته من خلال ( التكشين ) أى وضع اللحم على الصاج مع شيئ من الملح ويعرض على النار لفترة بسيطة حتى يجف ماؤه ويتم وضعه على صينية أو طبق ويعلق على معلاق ( مشلعيب) فى مكان ذى تهوية . هذا اللحم المعالج يمكن أن ينتظر لعدد من الشهور تستخدمه الأسر فى الطبخ والثريد متى شاءت وله نكهة خاصة تختلف عن بقية اللحم الطازج . هذه المشاهد المحفورة لاوجود لها اليوم إلا ذكريات حبيبة نرويها لأبنائنا وأحفادنا وكانت هى التى تعطى العيد رونقه ولكن يظل عيد القرى يحافظ على تقارب الناس وجمعهم على حب بعضهم لبعض وإن حدث مايكدر هذا الحب من عوارض وغواشى خلال العام فالعيد كفيل بازالتها وإعادة النفوس الى صفائها . قضيت أيام العيد فى قريتى ووقفت على هذه الزكريات إعادة ووقوفاً على مواقعها ولا أقول أطلالها فهى لازال فى امكانها أن تعطى . وأرحت نفسى خلال خمسة أيام من أخبار السياسة وساعدنى فى ذلك أن الخدمة الإذاعية على الموجة المتوسطة وال«FM» لاوجود لها وأن الصحف خلال عطلة العيد لاتصل الى منافذ توزيعها وأن الوسيلة الوحيدة للتواصل مع المركز والعالم الخارجى هى المحطات التلفزيونية والتى هى أيضاً لحسن حظ من يريد أن يعرض عن المشاهدة تكرس برامجها للغناء ويحظى الفنانون من مطربين وممثلين وعازفين والإعلانات الساذجة عن الزيوت والإتصالات الهاتفية والطلاءات بجل برمجة هذه المحطات وفى ذلك نفع فى إطلاق حرية المتلقين فى أن يمارسوا هوايات أخرى دون الندم على مافاتهم إذ لاندم عليه إذ الإعلانات تتكرر على مدار الساعة واللقاءات والحوارات يتكرر ضيوفها وتتشابه إفاداتهم . لاحظت أن الخرطوم ترفد أهل قريتى بالطماطم والبامية والكثير من الخضروات وحزنت على أن المناطق الزراعية ذات الأرض الخصبة والمياه المتوفرة تنتظر لتأكل من أسواق الخرطوم وتساءلت ما السبب والإجابة السهلة هى الحكومة أو كما صور أحد شعراء الشايقية فى أغنية « شتيلة قريرة» أن السبب الحكومة التى نقلت محبوبته من القرير الى نورى مع ذويها لأن الوسيلة التى نقلتها مع أهلها هى الكومر وكان يومها الكومر هى العربة الرسمية للمستشفيات ومركز الحكم . أرجو ألا نعلق كل تقصيرنا على الحكومة خاصة فى هجر الزراعة وعدم تجاوز موسمية الزرع لبعض الأصناف فكل من سافر لقضاء عطلة العيد ببلده كان بوده أن يضع العاصمة وراء ظهره بسياستها وطعامها .