في مثل هذا اليوم، قبل«31» عاماً، إغتال الهوس الديني «زولاً طيِّب» تحرر من ثقافة القطيع، وقال «إن الدين لا يمكن أن يعود لتنظيم الحياة في عصرنا الحاضر ،إلا إذا استطعنا إبرازه في قمة كبيرة، تتضاءل أمامها كل إنجازات العصر الحديث».. كان قوياً وعميقاً وهو يؤكد في البدء والخاتمة: «لا توجد قوة في الكون، تستطيع أن تجبرني على التراجع عن كلمة واحدة قلتها»..! وذات يوم قال الأستاذ لأحد تلاميذه: «أنا فيل أبْرَهة.. أنا ذلك الفيل، تأمل في وجهي»..! وقد كان «فيل أبْرَهة»، إسمه «مَحموداً»..! هكذا يحّدثنا التاريخ،، بأن أبرهة هيأ فيله وجهّز جيشه لدخول مكّة، وكان مُصمِّماً على هدم الكعبة.. وحضر رجل إسمه نفيل بن حبيب، قام إلى جانب الفيل، وأخذ بأُذنه، و قال فيها: «إبرِك محمود، أو اقفِل راجعاً، فإنّك في بلد الله الحرام».. ثم صعد فيل بن حبيب إلى الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى أن يقوم.. ضربوا في رأسه بالطبرزين، وهي آلة من الحديد فأبى.. أدخلوا محاجن في أسفل بطنه حتى أدموه ليقوم، فأبى، فوجّهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهروِّل، وجّهوه نحو الشّام فقام يهروِّل، وجّهوه نحو الكعبة فبَرَك..! كان الرجل يعلم أنه سيعبُر باسماً ومتألقاً، فما الموت إلا تجديد لهذا الأديم.. كان يعلم أن جعفر النميري، قد جاء الى السلطة على قدر، وأن نظامه سوف يتلاشى بعد التنفيذ.. كتب العركي بدر الدين السيمت في كتابه: «وذكّرهم بأيام الله»..أنه، و في يوليو من عام 1969،، أي بعد نحو شهر من انقلاب مايو، كان الأستاذ محمود محمد طه، في مجلسه الصّباحي، يطالع العدد الجديد من الصحيفة الحائطية للطلبة الجمهوريين، بجامعة الخرطوم.. توقّفَ الأستاذ عند مقال بعنوان:«إنقلاب مايو حركة عسكرية، اتّخذت واجهة مدنية».. كان بالمقال نبرة معارضة صريحة لنظام مايو.. سأل الأستاذ: من كتب هذا الموضوع ؟ أجاب الدكتور عبد الرحيم الريّح، أنّه هو كاتب الموضوع.. قال الأستاذ: «يُحذف الموضوع، ولا ينزل مع بقية مواضيع الجريدة، لأنو لما تجي المعارضة لنظام مايو، سأكون رأس الرُمح أنا.. نحن مازي ناس الترابي، نرسِّل الطلبة للمعارك، ونقعد في بيوتنا»..! وبالطبع فإن الترابي، في ذلك الوقت، لم يكن يُرسل الطلبة إلى المعارك الحربية ويجلس في بيته، فقد «وقعت الواقعة» بعد ذلك، في زمان متحركات الإنقاذ، التي أفضت إلى فصل الجنوب عن الشمال..! كما أن الأستاذ حقّق ما قال، فكان رأس الرمح عندما قدّم «للفداء»، روحه، بنفسه..! كيف لا، وقد كان مستغرقاً مع نشيد الإنشاد، لشاعره عبد المنعم عبد الحي:«فيا سودان إذ ما النفسُ هانت.. أقدِّمُ للفدا روحي بنفسي»..! وقد فعلها، لأنه لم يكن يستمع ترفاً..! كان يدرك أن للنميري مهمّة أخيرة، ومحدّدة، ولابد من منها.. هذا ما أشارت إليه ابنته الوقورة أسماء، عندما قالت إن أباها «حقّقَ مقاماً» في ذاك الرحيل،، وأنهم لا يحملون ضغينة على أحد، لأن الفاعل واحد، وكل شيء، في الملك والملكوت بأمر الله، العلي القدير.. لكن يبقى سؤال للنّاس: ماذا فعل الجمهوريون، غير أنّهم حذّروا من «تشغيب» العالم باسم الدين، ومن «فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة»..!؟ تحية للأستاذ في عليائه، فالأجساد مثل الملابس يمكن تبديلها، والموت الحسي هو نهاية دورة، وبداية أُخرى... «يا أيُّها الطيْفُ مُنْفلِتاً مِنْ عُصُورِ الرَّتَابِةِ والمسْخِ.. مَاذا وراءك، في كتب الرّمل؟ ماذا أمامك في كتبِ الغيْم؟ إلاّ الشموس التي هبطت في المحيطات، والكائنات التي انحدرت في الظّلام، وامتلاُؤك بالدَّمْع، حتَّى تراكمت تحت تُراب الكلام»..!