خرج وهو بكامل صحته، نظرت إليه من خلال النافذة، وهو يتهيأ للخروج ولم أكت أعلم ما يخبئه القدر، هذه نظرة يعقبها لقاء أم قد تكون النظرة الأخيرة، في صباح ذاك اليوم الممطر غلب علي القلق والتوتر، وتغلب هاجس الخوف على الموقف، وأنا اتنقل بين ردهات المنزل مجيئاً وذهاباً، توقف هطول المطر الآن، كل شيء لم يعد كما كان بالنسبة لي، لا المكان هو المكان ولا الزمان هو الزمان، تغير كل شيء فجأة رأساً على عقب، وأنا مازلت أترقب عودته في أية لحظة مطمئنة بأنه سوف يعود مثل كل مرة لكن دون جدوى. أتى الليل بوحشته وسكونه، وكانت ليلة طويلة حافلة بكوابيس فظيعة. جاء الصباح بأمل جديد عسى أن يعود هو.. وفجأة توقف نبض قلبي ثم عاد.. ولكن لم يعد أبي الذي كانت تملأ روحه كل ركن في المنزل، وتزيده جمالاً وحباً وحناناً.. رأيته مغطى وقد فاضت روحه الطيبة إلى دار الخلود، الموت حق ولله ما أخذ ولن نقول إلا ما يرضي الله. فكان صالحاً بمعنى الكلمة، وقد أفنى عمره متفانياً في عمله مخلصاً وفياً عفيفاً لا يتوانى أو يتقاعس عن مساعدة أحد، ولا يتفوه إلا بما هو طيب، متواضعاً كريماً وعالماً، وكان فقداً جللاً ولن ننساك يا أبي اللهم أغفر لأبي وارحمه وأسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء، اللهم طيِّب ثراه ومثواه، ووسع مدخله وأبدله داراً خيراً من داره، وأجعل قبره روضة من رياض الجنة.