تطرقنا في المقال السابق عن القواعد المتعلقة بالأرض في عدد من البلاد، وفي المنظور الإسلامي الذي ندين به، لكن الواقع الراهن عند التطبيق والتملك فيه ينشأ الجدل والنزاع إن لم يحكم الأمر منذ البداية، وهذا ما حدث في اقليم دارفور على وجه أخص رغم الديانة بدين اللإسلام لدى الملوك والسلاطين نسبة للمفهوم الخاطىء للاستخدام.. لا يعني سلطة الأراضي المركزية التي بيد السلطان احتكاراً مطلقاً يعطي من يشاء ويمنع من يشاء فمن جعله الله خليفة في الأرض عليه أن يحكم بين الناس بالحق. إن في المنظور الإسلامي يبرز عنصر ملكية الأرض من خلال خلافة الإنسان عليها، وبهذه المعادلة البسيطة تكون ملكية الأرض متسقة ومنسجمة ومحققة لمتطلبات المصلحة العامة والخاصة بتدرج رفيق وعادل : أولاً: هنالك أرض مملوكة للأفراد يأتي هذا الحق من خلال الهبات أو الاقطاعيات أوالمنح التي يمنحها حكام ذلك الزمان الذين يمثلون السلطة العليا في الحكم، وتصبح الأرض من بعد حقاً مشروعاً لا تنزع ولا تؤول الى أي منفعة أخرى إلا برضى صاحبها، وقفاً أو بيعاً أو هبة، والجدير بالملاحظة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند هجرته الى يثرب (المدينةالمنورة)، عندما بركت ناقته على مربد غلامين صاحبي الدار وأراد الغلامان النزول عن حقهما لكن الرسول أبى واشترى الدار بثمن لتكون مسجداً لعامة المسلمين.. هذه الإشارات والهوادي على أهل السلطة ان يقفوا عندها ويعززوا موقفهم السياسي تجاه سلطة الاراضي. ثانيا: هناك الأرض المشاع وهي الأرض التي تقع حول حرمات القرى والمدن والطرقات، ويعتبر عرفاً ملكاً مشاعاً لأهل القرى التي تقع فيها وما بها من ماء وكلأ، والناس فيها شركاء قبل اكتظاظ الأرض بالسكان وظهور بركات باطنها فتتدخل السلطة وقتئذ لما للثروة القومية من مصلحة عامة توجب الاقتسام العادل للموارد وحفظ النظام من أجل السلام والوحدة. ثالثا: هنالك الأرض الاميرية وهي موصوفة بأن للسلطة العليا حق امتلاك رقبتها لما لها من منفعة عامة. لم تكن للسلطات المركزية السودانية في العهد القديم إبّان مملكة مروي والممالك النوبية في الشمال كثير اهتمام بملكية الأرض التي على الشيوع أو للأفراد، وقد كان اهتمامها ينصب في ضرورة دفع الخراج، وما عليها من حقوق الدولة وتهتم كثيراً بالأرض التي على مجرى النهر، أما التي بعدت فهي صحارى قاحلة وكانوا يظنون أن الأحجار الكريمة مكنونة فقط في الجبال والبحار. بمجىء دولة الفونج (1505-1820) م انتشرت ثقافة تملك السلطان للأرض عموماً وإدارتها فهي جزء من استتباب الأمن للسلطنة الزرقاء لكن خولت فيها إدارة الأرض الى حكام الاقاليم، مما خلق نوعاً من اللامركزية عليها، وكان هذا عكس ما يحدث في سلطنة دارفور الموازية لها من حيث الزمان.. فكان السلطان في اقليم دارفور يشرف بنفسه بتقسيم ومنح الأراضي للقبائل من خلال الإقامة فيها.. والجدير بالملاحظة أن ممالك الشمال والسلطنة الزرقاء يميلون أكثر للفائدة الاقتصادية لسلطة الأرض من أجل جلب الضرائب والإتاوات، ولكن السلطنة في دارفور يميلون أكثر للجانب السياسي لكسب ود القبائل. بعد دخول الحكم التركي السودان (1821-1885) م برزت القيمة الاقتصادية للأرض في الزراعة والسكن، خاصة عند قدوم الأجانب المهاجرين من البانيا والشام ومصر ومن تركيا والمغرب...الخ.. ففي تلك الفترة كثرت تصديقات الحكومة لتقنين حق التملك للأرض والاستمتاع بها، ولم يتم تغيير الحكم في وسائل امتلاك الاراضي في الاقاليم دون نزع أو فرض سيطرة إلا من خلال كثرة الضرائب والاتاوات.. أما دارفور فكانت بعيدة عن المركز وعن هذه السيطرة ولم يتأثر سلطانها بشيء من هذا القبيل، فالزكاة والاتاوات ترد الى بيت المال وخزينة السلطان، لا الى مالية المستعمر وهذا بعد سياسي كرّس ذلك المفهوم للأرض الذي ذكرناه آنفاً. كانت ممارسة سلطة الأرض وثقل الضرائب والإتاوات عند الحكم التركي، أحد بواعث الثورة المهدية، فأرض السودان ليس للمستعمر وكذلك ثمارها، مما سهل اشتعال جذوة الثورة مع الأسباب الأخرى ليس هنا مجالها.. جاءت الثورة المهدية ولم تهتم بالأرض كثيراً، فهي مشغولة بالجهاد وبأرض السودان كله وتحريرها من المستعمر، وكانت تبحث عن متطلبات الجهاد بالمال من المواطنين من خلال ريع الأرض والاتاوات والزكاة دعماً لمشروع الدعوة المهدية.. والجدير بالملاحظة عندما انتصرت الثورة المهدية كان اقليم دارفور ذا النصيب الأكبر والحظ الأوفر من واردات الزكاة والاتاوات وريع الأرض والزكوات بأنواعها نسبة لاستقلالها من استغلال المستعمر وقتئذ ولتجاوبها الديني والوجداني الكبير للثورة المهدية. بعد دخول المستعمر السوداني مرة أخرى من قبل البريطانيين، وضع الحكام البريطانيون سياسة متكاملة تجاه الأراضي ووضعت لها القوانين المنظمة والبديلة، كلما ظهر خلل في الإدارة مستندة أكثر على الأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة، وأصدرت عدة قوانين تحكم سلطة الأراضي لتأمين الحقوق في مجال حيازة الأرض ومساحتها سارية المفعول دون تعديل الى يوم زماننا هذا، منها ملكية عين للحكومة وملكية عين للأفراد. كلما ذكر في المقال هذا والذي سبقته تقدمة لموضوع الحواكير الذي مات فيه خلق كثير في الحروب القبلية بدار فور خاصة، وتطاير شررها الى داخل العاصمة لكنها همدت هنا ولم تهمد هناك، هذه القضية تطاولت فيها جلسات لجنة السلام والوحدة وأخص بالشكر للأستاذ محمد الطيب التوم مدير الأراضي السابق على المحاضرة القيمة التي القاها لأعضاء اللجنة ونسبة لأهمية الموضوع وارتباطه بأرواح الناس، نود أن نقف ملياً وأن لا يترك لكاتب المقال، بل نود النقد والتصويب والتعقيب والإضافة ... والى المقال التالي إن شاء الله بذات العنوان أعلاه.