إن أمسية السبت 5 مارس 2016م سوف تظل نقطة تحول ثاقب في قلب الحركة الإسلامية، عبر الحاضر والمستقبل، ليس في السودان فحسب بل في العالم أجمع.. وبحساب عقيدة المسلم الإسلام دين كل زمان ومكان، وكلٌ يأخذ منه بقدر حتى يرث الله الأرض، وأن رحيل شيخ الحركة الإسلامية- عليه رحمة الله- وهو مجدد فكر ومنهج الحركة الإسلامية، وطبعها بمذاق سوداني خالص، وأحسب أن الشيخ أعد نفسه للرحيل، رغم أن الحركة لم تنتبه لذلك، وما محطة الحوار الوطني الذكي إلا إشارة لذلك الرحيل وكأنها حجة الوداع عند الرسول صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم )، إن الكتابة عن العباقرة سهلة من حيث ما تركوا، وصعبة من حيث ما أرادوا ( السهل الممتنع).. ولو جمعنا ما كتبه الأصدقاء والأعداء لحوى عشرات المجلدات من قدح ومدح، فهو مفجر كل أحداث الحركة الإسلامية، وجعل منها مواعين ومؤسسات ومدارس تمشي بين الناس كل الناس، وسوف تظل تلك المدارس مكان أخذ ورد وعِبر واعتبار، وسوف يظل إرثه وأثره يشغل الفكر لعدة قرون سواء رضي المرجفون في المدينة أم لم يرضوا. فللشيخ في كل حدث حديث في الدعوى، القانون، الحكم، السياسة، الاقتصاد، فهو نفخ في روح الحركة الإسلامية فكره التجديدي، وقد قربل الماضي وحصن الحاضر واستشرف المستقبل، ومدارس الرجل له شواهد ابتداء من مدرسة ثورة أكتوبر، مروراً بالمائدة المستديرة، قفزاً بجبهة الميثاق الإسلامية انتشاراً بالجبهة الإسلامية القومية توطيناً وتمكيناً بالإنقاذ ومدارسه المختلفة دفاع شعبي، شرطة شعبية، خدمة وطنية، أمن شعبي مدرسة الجهاد اختراقاً للعالمية عبر مدرسة المؤتمر الشعبي العربي، حتى مدارس الاستشراق أخذت بنصيب.. وأخيراً مدرسة المؤتمر الوطني، والمؤتمر الوطني الشعبي.. ختاماً بمدرسة الحوار الوطني الجامع الذكي، والشواهد كثيرة لا تحصى، فكتاب المرأة بين تقاليد المجتمع وتعاليم الدين، والذي ولد محاضرة ثم كتيب أحدث ثورة محلية وإقليمية في عالم المرأة المسلمة، ومكنها من شق طريقها مستقيماً وسط ماديات الغرب، فهذا الكتيب تكاثر خضرياً لأنه نبتة مبنية على تأصيل القرآن والسنة الصحيحة، وبالرغم من وعورة الكتابة وأثرها نكتب حباً وتقديراً له، والشواهد كثيرة في ذلك، وما كتبه مصطفى عكرمة عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية في مقدمة كتاب الدكتور عبد الرحيم عمر ( الترابي والإنقاذ) قال: (فالحركة الإسلامية في السودان وتجربتها في العمل السياسي وإدارة الدولة، أمر في غاية الخطورة والأهمية... كالسير في حقل ألغام)، فالشيخ- عليه رحمة الله- رحل بسرعة وهو يؤدي ويقيم لمآلات ومخرجات الحوار في مكتبه، فسكت ذلك القلب الذي كان يرسل الإشارات والعبارات السريعة في وقت واحد وسط بسمة مشرقة ساحرة وساخرة، عندما رحل اكتشف الأصدقاء والأعداء أن الشيخ كان زاهداً في هذه الدنيا، وخرج منها بأيادي بيضاء طاهرة مسبحة موحدة، لم تجروء وكالة أو قناة أن تتحدث عن حساباته البنكية بعملات صعبة أو محلية، ولا شركاته بل كل يتحدث عن ذخيرة الرجل الفكرية الشاملة والمتجددة والمتنوعة، اللهم أجير الحركة الإسلامية في مصيبتها واخلف لها خيراً، واجعل البركة في أسرته وآل بيته الكرماء، فالرجل قد أثر حتى على فكر الذين خاصموه بحواره الثر، الذي أثر على أهل اليسار واليمين، فعدلوا من أسلحتهم وخططهم وكان ذلك أثراً إيجابياً، فالرجل دائماً محاوراً لا معارضاً حتى المستشرقين لم ينجوا من فكره، فحول الكثير منهم إلى مسارات إيجابية، وعندما نقف على الحوار ونؤصل له فهو من مدارسه أيضاً، نرجع إلى الكتاب والسنة، فالرسالة المحمدية مبنية على الحوار بين الحق والباطل، ومعجزتها القرآن الكريم مبني على الحوار، لم يكن معجزة مادية كالعصا والنار في سابق الرسالات، وعندما نقف على حوار موسى عليه السلام صاحب الرسالة، والخضر صاحب الولاية في سورة الكهف عند مجمع البحرين وليته كان ( مقرن النيلين)، وفي الآية 83 في سورة الكهف (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ... (82)) صدق الله العظيم، وليت المدينة كانت الخرطوم، وبدأت الآية بالصلاح وختمت بالرحمة، فكأنما الحوار هو الجدار الذي أقامه موسى وأصلحه، يا ترى من هما اليتيمان هل هما المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي؟ وهل الكنز من ذهب وفضة أم من قرآن وسنة ؟ وهما وجها الحركة الإسلامية، ولكن السؤال الصعب هو من الذي يكون بمثابة موسى صاحب الرسالة والخضر صاحب الولاية ؟ حتى ينتفع اليتيمان بصلاح الأب، ويبلغا غايتهما بإرادة الله سبحانه وتعالى، (صبراً جميلاً والله المستعان على ما تصفون).