في اليوم السابع عشر من شهر فبراير 2016 لبى محمد حسنين هيكل النداء الأزلي للقاء ربه قبل أن يأذن له جمهور القراء الذين طلب إذنهم بالانصراف في 30/9/2003، يعتبر محمد حسنين هيكل الكاتب الصحفي والمؤرخ السياسي والوزير المصري من أبرز الشخصيات المؤثرة في سياسة الشرق الأوسط في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم وإن كان أعظم ذروة نفوذه حينما كان قريباً جداً من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وحتى بدايات الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، وكان في أحايين كثيرة المعبر عن توجهات الحكم في مصر خاصة من خلال كتاباته الصحفية وعلى الأخص من خلال عموده بصراحة والذي كان يشغل صفحة كاملة في صحيفة الأهرام المصرية اليومية التي كان يرأس تحريرها، وكان العالم يترقب ما يكتب في ذلك المقال ليستكشف منه حاضر ومستقبل السياسة المصرية ورأيها ورؤيتها في كثير من القضايا الداخلية والخارجية، وكان هيكل رسول القيادة المصرية لكثير من القادة الإقليميين والعالميين، وكان يتم الاحتفاء به حيث حل وقد أتيحت له مقابلة كثير من زعماء العالم والشخصيات المميزة في المجالات السياسية والعلمية والأدبية وغيرها، وقد تحدث عن كثير منها في ثنايا مؤلفاته العديدة وخاصة في كتابه (زيارة جديدة للتاريخ) وأورد فيه معلومات قيمة عن الذين قابلهم ومنهم الزعيم نهرو والعالم الفيزيائي البرت أنشتاين ،وأورد قصة ابا إيبان حين قدم عرضاً له لرئاسة إسرائيل واعتذر انشتاين بحجة أنه يهوديٌ ولكنه ليس صهيونياً . محمد حسنين هيكل كان عرّاب كثير من السياسات في عهد عبد الناصر، ولعب أدواراً محورية في بلورة السياسات الخارجية والدولية والإقليمية، وكان له أثر كبير في مسيرة الصحافة المصرية خاصة بعد تسلمه لرئاسة تحرير الأهرام بعد عام كامل من توقيعه على الاتفاق بالأحرف الأولى مع (آل تكلا) ملاك الجريدة الأصليين. وكان الدكتور بطرس غالي قبل تعيينه وزير دولة بوزارة الخارجية، جاءنا ممتحناً خارجياً لطلاب الامتياز في السنة الخامسة في كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية جامعة الخرطوم، وكان وهو ممتحننا الخارجي عند التخرج عندما أوقفت مايو الممتحنين الخارجيين الغربيين الذين كانوا يأتون من الجامعات الأمريكية والأوربية. وقد أنشأ هيكل كذلك مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية والسياسية وكان في مقدمة المراكز مثله والغول والسابق في الشرق الأوسط - وقد أفردت الدولة له إمكانات كبيرة للباحثين وتهيئة بيئة وإمكانات العمل - ولا بد أن المقارنة بينه والمراكز الأخرى ومن بينها السودانية وهي قطعاً ليست في صالح الأخريات . وكان الأستاذ محمد حسنين هيكل وهو رئيس للتحرير، يكتب مقالاً أسبوعياً يوم الجمعة وعنوانه بصراحة، ويعكس المقال معلومات خلفية يحصل عليها من الأطراف في الدولة والإقليم والعالم، بحكم صلاته الكبيرة مع قادة الحكم والرأي العام في مختلف أنحاء العالم شرقه وغربه، عربيه وأعجميه، وكان ذلك المقال يترجم بكل اللغات الحية وينشر في مختلف صحف العالم، ولم يكن يدانيه أحد في الصحافة العربية ،وكان يتمتع بمساحة كبيرة من الحرية في كتاباته . وما يميز الأستاذ حسنين هيكل عن الصحافيين الآخرين أنه أصبح كاتباً ومؤلفاً متميزاً عن أقرانه وعن الكتاب الآخرين، فضلاً عن أنه أصبح وزيراً للإعلام، وكان وزيراً رقماً ولم يكن إضافة واحد لمجلس الوزراء، وألف ما يربو على العشرين مؤلفاً، وتتميز مؤلفاته بغزارة ودقة التوثيق واستجلاء التناظر في المواقف في مختلف عواصم العالم المؤثرة مثال ذلك في كتابه عن حرب أكتوبر، حيث كان ينقل ما يدور حول الحدث الواحد في القاهرة وواشنطن ونيويورك وموسكو وتل أبيب والرياض وعمان ودمشق ولندن وباريس وغيرها . وقد ابتعد نوعاً ما عن السياسة المباشرة في عهد الرئيس محمد أنور السادات، وبعد كثيراً في عهد الرئيس حسني مبارك، وبعد جداً في عهد الرئيس محمد مرسي، وبدأ الاقتراب في عهد الفريق السيسي والرئيس عدلي منصور بعد أن خطا على الثانية والتسعين، واعتذر للقراء بعد أن أجرى عدداً كبيراً من المقابلات مع قناة الجزيرة وغيرها والتي تكاد تكون أشبه بزيارة متلفزة للتاريخ لمؤلفه القيم (زيارة جديدة للتاريخ)، وكان آخر كتبه الذي صدر في نهاية العام 2012 بعنوان (عهد مبارك). ونواصل في فكره وكتبه وأفكاره و مساهماته وأبنائه، خاصة ابنه أحمد هيكل الذي له أعمال استثمارية إستراتيجية في مجال السكر من خلال شركته" سابينا" في السودان، ولابنه حسن في سوق المال في مصر، أما ابنه علي فهو طبيب استشاري مشهور . وقد ترك وصية مكتوبة من تسع صفحاته أغلبها تتعلق بأرملته ورفيقة عمره السيدة "هدايت"، ومن أهمها أن تودع كل أوراقه ووثائقه في دار الوثائق المصرية، وأن تخرج جنازته من الحسين وأن تكون غير رسمية وألا تصدر أسرته نعياً له في الصحف، وقد نعاه الكثيرون في حياته وبعد مماته، اتفق معه الكثيرون وكذلك اختلف معه الكثيرون من الحكام والمفكرين والكتاب ولكن برغم كل ذلك، فقد كان ألمع الصحفيين السياسيين والكتاب العرب وفي العالم الثالث وحتى على مستوى العالم لا يوجد الكثيرون ممن أثروا في سياسات مناطقهم مثله، وحتى الصحفيين النابهين أمثال أحمد بهاء الدين وأحمد الجار الله والراشد والأخوان فريحة، يتفوق عليهم في تأثير كتاباته وإنتاجه في الفكر والتوثيق السياسي. و قد كان مقرباً ونافذاً جداً لأحد أهم الشخصيات في التاريخ العربي والإسلامي الحديث، وهو جمال عبدالناصر وكانا معجبين ببعضهما جداً وإن كان لم يشهر عنه إعجابه الشديد باشتراكية ناصر بقدر عروبيته، و لم يكن قريباً من الاشتراكيين في الثورة المصرية أمثال علي صبري أو أحمد حمروش ولا من الأقرب للإسلاميين أمثال حسين الشافعي. لم يعرف عنه الدفاع الحار لأفضل ما صنع عبدالناصر من سياسات مثل الإصلاح الزراعي والقرارات الاشتراكية التي أثرت في العالم العربي والثالث حينها. ومن أهم و أذكى وأخلص مساهماته هو تنبيهه الدائم للرئيس السادات لإستراتيجيات وتكتيكات الدكتور هنري كيسينجر وسياسات خطوة خطوة التي أضاع فيها معظم نصر أكتوبر لو اتبع تحفظات هيكل، ونرجو أن نعرض لبعض مساهماته من خلال كتبه مثل لمصر لا لعبدالناصر واستئذان في الانصراف وحرب أكتوبر وزمان مبارك، وبنائه لمؤسسة الأهرام.