تروي الطرفة أن في زمان قديم توفي رجل، فأرسل أهله للقرى المجاورة المنادين لإخبارهم بمواعيد مواراة الجثمان، ولحظ ابن المرحوم أن الجثمان به حركة ما، فأخبر عمه بالأمر فما كان من العم إلا أن أمره بالصمت معللاً الأمر بأنهم قد أخبروا أهل القرى، ولا يمكن أن يظهروا بمظهر من لا يعرف الموت أمام وفود المعزين.. ورغم مجافاة الطرفة للواقع لكنها تدلل على احتفائنا كسودانيين بالموت وطقوسه، فإلى وقت قريب كان يمتد)الفراش( أي مراسم العزاء الى اربعين ليلة لا يغادر الأهل والأقارب مكان العزاء، ثم تقلصت الى اسبوع، ثم ثلاثة أيام، ثم يوم واحد وبعضهم أصبح ينتهى العزاء بانتهاء مراسم الدفن. والمراقب لتداول السودانيين عبر الوسائط الاجتماعية يكتشف حالة الحزن التي طغت على أغلب مدونات الوسائط الاجتماعية أثر تناقلهم خبر وفاة الكاتب والشاعر والسينارست (سعدالدين ابراهيم) عليه رحمة الله تعالى وغفرانه. وقد تبارت مجموعة كبيرة من عارفي فضله ومحبيه في نعيه والترحم عليه، وسرد جانب من زمالته أو التلمذة على يديه أو أيقونات شعره وقد امتلأت صفحات الفيسبوك والواتساب بصورة الراحل حتى ظننت يومها (وليس كل الظن اثم )أن ليس هناك من شذ عن هذا الأمر قارنت الأمر بوفاة مجموعة من السياسيين خلال السنوات الماضية، فوضح لي الفرق الكبير، فالسياسي كما تجد من يعرف له فضل تجد له مناوئين بل أعداء.. يصل الأمر ببعضهم الى الافتاء بعدم جواز الترحم عليه!! قلة من أهل اليمين أو أهل الشمال، في ظاهرة غريبة عن مجتمعنا السوداني المتسامح بطبعه. في العموم أصحاب الإبداع على مر العصور يلتصقون بذاكرة شعوبهم، بل يصبحوا مصدر فخر في تاريخ الأمم بينما يأفل الساسة ولا تجد لهم ذكرى. فأغلبنا يعرف زهير بن ابي سلمى، وعنترة بن شداد، بل يؤرخ المؤرخون بأشعارهم الحقبة التاريخية فنقول اولئك شعراء العصر الجاهلي، وغالباً أننا نعرف البحتري وابوتمام، لكن لا نذكر ساسة عصرهم ما عدا ابو الطيب المتنبئ الذي مدح سيف الدولة، وأعقبه بمدح كافور الأخشيدي أملاً في عطاياه وعندما لم يعطه قام بهجائه هجاء سارت به الركبان، فخلدت الحقبة السياسية التي عاش فيها المتنبئ والأمر لا يقف عند نواحي الابداع الشعري بل يتعداه الى العلوم المختلفة، فجلنا يعرف الفارابي، وابن رشد، وابن الهيثم، وعباس بن فرناس، والجبرتي، خلدهم التاريخ ولم يخلد مجايلنهم من أهل الساسة حكاماً أو معارضين وليس الأمر وقفاً علينا في الشرق فإذا ما يممت تجاه الغرب وجدت الكسندر بوشتين، ووليام شكسبير، وفولتير، وليوتولستي قديماً وفي العصر الحديث يعرف أغلب المهتمين الكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل، بينما لا يعرف أغلبنا من هم سياسيي كولمبيا وقادتها . الأمر بأختصار أن العلماء والأدباء والمفكرين يقومون بأعمال تنفع البشرية فتخلد أسماؤهم وقديماً قيل (السنة الخلق أقلام الحق).