يهل علينا بعد أيام معدودات، وليالٍ معلومات عيد هو أكبر أعيادنا الوطنية، ومناسبة تهفو لها النفوس، وتطمئن بها الخواطر.. عيد الاستقلال المجيد.. سائلين الله أن يدخل شهداء ذلك الاستقلال جنات رضوانه، وأن يثيب كل من عمل على تحقيقه ثواب المجاهدين الأبرار، والعاملين الأخيار، وأنه لابد من إعادة الذكرى لمن شاء منكم أن يتقدم، أو أن يعرف ما لم يكن يعلم، ويسرني في هذه المناسبة الوطنية الجليلة أن أقدم هذه الذكريات عسى أن تكون فيها مشاركة وجدانية أو تعريف بما يجهله أبناء هذا الجيل من تاريخ الحركة الوطنية، والكفاح المبرور. { تعود بي الذاكرة إلى ضحى يوم مشهود من أيام عام 1949م وقد ضاقت بنا نحن شباب «حزب الأشقاء» وكهوله، وشيوخه ضاقت بنا دار المجاهد الوطني الغيور وكيل الحزب «محمد نور الدين» بمنطقة الأملاك في الخرطوم بحري- اجتمعنا من كل حدب وصوب لنكون في شرف استقبال أخواننا المكافحين المغادرين لسجن «كوبر» بعد أن قضوا فيه فترة السجن المحكوم بها عليهم لوقوفهم بصلابة ضد «الجمعية التشريعية» صنيعة الاستعمار وربيبته، كانوا كوكبة جيء بهم من «ود مدني» قلب الجزيرة النابض، ولسانها الناطق.. إنهم «أحمد محمد خير، وصالح مصطفى الطاهر من أساطين التعليم الأهلي، وإبراهيم نصر الدين رئيس الحزب، وعبد الحليم خليفة، وعمر محمد عبد الله سكرتير الحزب المخلص النشط، إلى جانب «نور الدين» وغيرهم ممن لحق بأسمائهم النسيان، أو أصابني الخرف حيالهم، فمعذرة حتى يرضوا. { كنت وقتها قريب عهد بالعمل في «مكتب النشر» بمصلحة «المعارف»، وكان رئيسنا هو المستر «هوجكن» والذي شملته «السودنة» فيما بعد التي يخلدها الشاعر بقوله: «يُومْ وَدْ كِرْجه تَلَّب من حُمَارُو وباعُوا».. وكان المستر «هوجكن» هو البريطاني الموظف الوحيد الذي تعفف عن استلام مال السودنة، والذي أسموه وقتها «مال الفداء». تسللنا فجأة من المكاتب لئلا يفوتنا شرف استقبال أبطال «كوبر»، ولعله قد تغيّب الكثيرون إلا من ضعف عزمه، وخارت قواه.. أذكر أنه ممن وقفوا بقوة وصلابة الأخوان الشاعر «حامد أحمد المحينة» وكان موظفاً «بمصلحة المالية»، و«عبد الحميد الطاهر» الموظف بمصلحة البريد والبرق، والسكرتير للمهرجان الأدبي الثالث، ثم عُين «رقيباً لمجلس الشيوخ» لما قام الحكم البرلماني، وكلاهما كانت «مصلحته» تعج بالرؤساء من بني السكسون والسائرين في ركابهم.. ومع ذلك لم يفروا أو يضعفوا أو يخافوا. { وما أن دنا موكب المجاهدين من الدار حتى علا هتاف الجماهير المحتشدة بحياة الأبطال، والزعيم الأزهري، وسقوط الجمعية، وحمل أولئك الرجال الأحرار على الأعناق وكانت لحظة بحق، وما أن هدأ الزئير قليلاً، واستراح الركب فترة، وتم الإكرام حتى بدأ «البرنامج الخطابي» الذي لم يكن معدّاً له من قبل، وإنما جاء وليد الساعة.. فإذا بالأخ «المحينة» يتقدم ليلقي قصيدة وطنية أدمت الأكف بالتصفيق الحاد، أعقبه كاتب هذا المقال في كلمة تحكي أساليب المعلمين في الفصول.. استعار من قصيدة «حسن طه» في ديوانه «هتاف الجماهير» وكانت ذائعة الصيت.. والتي يقول فيها: وما مجلس التشريع إلا حكومةٌ تشُرع ما قد أنكرته الشرائع وجاء دور الأخ عبد الحميد الذي بدأ خطابه بأقوال من «الحجاج بن يوسف» يحتاج شرحها إلى ترجمان أو إلى منتسب إلى «سراجي» ضليع. { كل الذي جرى كان تحت سمع وبصر «قمندان البوليس» السوداني قريب «محمد نور الدين»، والذي كان يجلس ببزته الرسمية. { إن الشعار الذي رفعناه ضحى ذلك اليوم كان قول الشاعر القومي أحمد محمد الجاغريو: «الزارعنا من غير الله يجي يقلعنا» { لقد فقدنا قبل أيام قلائل الأخ الشقيق الاتحادي من أبناء بلدتنا «حسن المضوي محمد الإزيرق» وكان رحمه الله، له موقف شجاع ومشهور يوم أن جاء الحاكم العام في زيارة لمدينتنا «بربر» في أوائل الخمسينات، وكان جزاؤه على ارتكاب ذلك الموقف الحكم بالسجن ثلاثة أشهر.. ولقد رأيت له صورة مع الزعيم الأزهري احتفظ بها بين أغلى ما أحرص عليه، جدير ذكره أنه عندما توفيّ المجاهد «محمد نور الدين» خرجت جنازته من أحد المنازل الشعبية بالخرطوم بحري ونقول مع الشاعر: عُلُوٌّ في الحياة وفي الممات ü لحق تلك إحدى المعجزات فلكل من قدم تقديري وإيماني بهذه المناسبة الخالدة.. ورحم الله من لقي ربه راضياً مرضياً.