عشرون عاماً في الكنبة، قالها السيد الصادق المهدي في الكاركتير أو قيلت على لسانه عبر الفن الكاركتيري المحبوب للقراء، والذي يمثل فيه كل كاركتير مقال بحاله.. وفي الكاركتير المعنى الذي نُشر قبل أيام، وددت لو أضاف رسامه فناناً يغني أغنية «براي سويتا في نفسي» بجوار صورة السيد الصادق الجالس على كنبة الاحتياطي مرتدياً ملابسه الرياضية وعلى صدره علم السودان، فالسيد الصادق المهدي لا خلاف حوله بأنه صاحب تجارب ورجل له جمهور، إلا أن مشكلته هي التي تبقيه دائماً على الكنبة خارج الملعب.. إنه لم يستفد من تلك التجارب، فهو قد حكم مرتين وفقد في كل منهما الحكم بسهولة جداً، دون أن يستفيد من التجربة الأولى في الثانية، وهو الذي صالح النميري بالطريقة ذاتها التي صالح بها الإنقاذ في جيبوتي، ولكنه في الحالتين تعامل بسلبية للاستفادة من المصالحة.. وفي الأخيرة والتي عاد من خلالها للبلاد، ظل متقلباً بدرجة أنك لا تعتمد على موقف له.. فهو ضد خليل ومع خليل، وهو مع الحكومة وضدها، وهو مع توحيد صفوف حزبه ومع تأجيلها، ومع البقاء في كنبة الاحتياطي وقلبه يريد السلطة.. يحدث كل هذا من رجل يعرف أن السياسة هي فن الممكن، ويعلم أنه من غير الممكن الآن إزاحة النظام القائم بأي شكل من الأشكال، بحكم أن المؤتمر الوطني الآن هو الحزب الأقوى شعبياً واقتصادياً، وهو الحزب الذي استفاد من أخطاء تجارب الأحزاب الأخرى، والتي فشلت في تغييره حتى بالسلاح وبدعم أمريكا أيام الحملة التي نظمت عبر كل دول الجوار، والتي جاءت فيها وزيرة الخارجية الأمريكية إلى دولة مجاورة لتشهد خلع حكومة الإنقاذ ولكنها عادت بالخيبة.. ليتأكد من يومها للأمريكان أن إسقاط الإنقاذ لن يتم بالقوة، وأن عليها أن تدعم السلام لتكون الحركة الشعبية داخل الحكومة لإضعافها بحسب اعتقادهم، إلا أن الحركة فشلت في ذلك لتراهن واشنطن على الانفصال لإضعاف الشمال، بينما القرائن تقول إن هذه ستفشل أيضاً كما فشل ما قبلها وأن الشمال «يادوب سيشد حيلو» .. وهذه الحقائق يجب أن يدركها كل من يتوقع أسوأ السيناريوهات عقب الانفصال.. فالتجارب أكدت أن المؤتمر الوطني يقوى بالتحديات، وبالتالي فإن السيد الصادق المهدي يجب أن يكون مثل مولانا الميرغني الذي سارع بمباركة خطاب الرئيس حول المرحلة المقبلة، لا أن يهدد بالاعتزال وغيره، فهو يدرك أنه لو اعتزل السياسة لن «تقوم الدنيا له».. ومن هنا أرى أن الإمام يجب أن يكون بقامة التحدي القادم الذي يحتاج إلى تهدئة اللعب، ليكون بحساب مختلف، حساب يراعي فيه أهمية المرحلة في تاريخ السودان، وأهمية إعادة ترتيب خطوات حزبه، وأهمية البعد عن التحريض لدفع أنصاره للشارع والصدام مع قوات الأمن التي لن تفرط في حفظ النظام في هذه المرحلة الدقيقة من عمر البلاد، وأن يهدي من اندفاع الدكتورة مريم ابنته والتي تعد من السياسيات الشابات النشطات والمعارضات المندفعات.. ومعلوم أن الاندفاع غير مطلوب من قيادية في مثل الموقع الذي هي فيه الآن.. ود. مريم عرفته منذ منتصف التسعينات عقب عودتها من الخارج، حيث كانت تقاتل بالخارج بعد أن تخرجت من الجامعة ورأت حينها ألا تدخل مستشفى لتمارس مهنتها في الطب والتي اختارتها، فحلمت السلاح حتى عادت مع قوات حزبها للوطن، وظلت من يومها تمارس السياسة بذات ثورية القتال برغم انتهاء زمانه والعودة من مسارحه.. ومريم يحمد لها أنها إنسانة اجتماعية من الدرجة الأولى وأنها قد طورت مهاراتها الخطابية سريعاً.. إلا أنه يؤخذ عليها ممارستها السياسة بالهتاف الذي لا يحقق شيئاً لحزب مطلوب منه أن يعيد ترتيب أوراقه للانتخابات القادمة بعد انتهاء أجل هذه الدورة أو أن يسعى للدخول مع الوطني في الحكومة، وهذه أو تلك يدخلان في حسابات فن السياسة- فن الممكن. أخيراً: نقر بأن السيد الصادق رجل محترم وزعيم خطيب، ونعترف بأنه رجل مفكر، ولا نختلف حول أنه إذا ما اعتزل وقدَّم خليفة له لرئاسة حزبه فإنه يحسن القرار ويمنع حزبه من تكرار أخطائه، خاصة وأن اللاعب الذي يجلس طويلاً جداً على دكة الاحتياطي يفقد الثقة في نفسه ويصعب عليه أن يكون قائداً للاعبين في أية مباراة قادمة، لاسيما بعد فشل تجاربه التي سبقت الجلوس على كنبة الاحتياطي بحكم التردد.. فلا تتردد سيدي الإمام هذه المرة في الاعتزال، وقدموا لنا أنت ومولانا الميرغني ونقد والترابي قيادات جديدة تتعامل بفن الممكن.. فالبلاد لا تحتمل قيادات لا تتصور أن الحياة لا تسير بدونها.. وشكراً لكم نجاحاتكم وفشلكم.. والشكر الأكبر سيكون على قرارات الاعتزال والجلوس على كنبة المرجيعات عند الحاجة.