كان يوماً بارداً من أيام بواكير الشتاء والحذر يرخي بظلاله كاملة على ذلك الطرف من بلادنا الحبيبة حين هبطت بنا الطائرة لولبياً في فناء واسع في مدينة أويل الظليلة، وخرج أهلها يستقبلون القادمين في دهش بالغ، إذ طال بهم العهد دون رؤية طائرة مدنية تحط بمدينتهم أو قطار يتوقف بمحطة السكة الحديدية العتيقة ببلدهم أو حتى لوري يخرج منها أو يدخل إليها.. هكذا حبست، بل سجنت الحرب اللعينة أهل الجنوب في الحضر والبوادي في تلك الأيام.. وقد نزل بنا الطيار القدير إلى أويل لولبياً من ارتفاع ثلاثين ألف قدم حتى لا يكون في مدى الصواريخ.. وقد ملأتني حتى ذرى الطرب أبيات للشاعر الفنان طارق الأمين يحلم فيها بالسلام والأمان: (تضحك طفلة حلوة وفي يمينا كتابة والحبوبة تمسح من جبينة ترابة والقمرية تصدح تستريح دبابة والقطر القديم يجري ويشق الغابة) نعم أيها الشاعر المبدع حلمك هذا حققته اتفاقية السلام، غير أن القطر القديم لن يجري غداً من الشمال إلى الجنوب إن تم الانفصال المؤسف، وستلزمنا تأشيرة دخول لرؤية أويل مرة أخرى.. غداً تغدو تلك الأنحاء الظليلة التي ألهمتنا القوافي والألحان أبعد ما تكون عنا.. وهل كان أهل بلادنا يفرقون بين جوبا وأم درمان أو يحسون الغربة وهم بواو.. أعجبني حديث الموسيقار الكبير بشير عباس، إذ قال إنه لا يعترف بانفصال الجنوب عن الشمال إن تم، لأن الجنوب ألهمه معظم مقطوعاته الموسيقية، صرح بذلك أمام الملأ في ليلته الموسيقية ضمن أماسي الخرطوم الموسيقية، ثم استمع الناس مقطوعته الرائعة نهر الجور. كانت رحلتنا تلك لأويل في شتاء عام 1997م بصحبة الأستاذ محمد الحسن الأمين والي ولاية شمال كردفان عصرئذ بوفد من وزراء ومحافظي الولاية، وكنت حينها محافظاً لمحافظة بارا.. وقد رأى الوالي أن نزور أويل لمشاركة أهلها الاحتفال بأعياد الميلاد، هكذا كانت النوايا وكان الوداد والإخاء.. ذهبنا والحرب في أوجها وجيش الشمال يحيط بالمدينة حماية ودفاعاً عنها.. وجلجلة المدافع تختلط بصوت الموسيقى والنقارة عشية الكريسماس.. أشتعلت في تلك الأمسية المدينة بمجموعات الراقصين في دوائر ملأت الساحات والأحياء، وقد حال الوقار دون خروج الوالي وأعضاء الوفد للمشاركة في الرقص، غير أني خرجت يرافقني الصديق الراحل الدكتور آدم علي وزير الصحة بحكومتنا دون حرس للمشاركة في الرقص في كل تلك الدوائر.. نخرج من دائرة وندخل أخرى وقد يسر مشاركتنا إلمامنا سوياً برقصات الدينكا.. وقد أسعد الراقصين والمغنيين وجودنا بينهم.. عدنا إلى مقر السكن بعد منتصف الليل نملأ طرقات أويل ضحكاً وفرحاً وما درينا ليلتها أن تلك الديار ستنفلت بعد سنوات من بلادنا.. (وتفضل الذكرى الحبيبة نارا توقد مرة مرة). في صباح اليوم الثاني يوم الاحتفال الديني، ذهبنا مع أهل أويل للكنيسة الظليلة وقد تغطت ساحتها الفسيحة بالأزاهر وأعلام السودان، وقدم رئيس وفدنا الأستاذ محمد الحسن الأمين خطبة ضافية في الاحتفال، ركز فيها على المحبة التي تجمع أهل السودان بمختلف أديانهم وأعراقهم، وتحدث عن السلام وضرورة سعي أبناء السودان الحثيث لوقف الحرب والجلوس للحل السلمي، وقدم من ثم الهدايا التي أتى بها الوفد لأهل أويل، وهي عبارة عن ألف كرتونة من الحلوى ومجموعة كبيرة من ملابس الأطفال، وعشرة أطباق فضائية تلفزيونية لأندية المدينة وكمية من جوالات السكر.. وقد شكر القس ووالي الولاية الوفد على زيارته ومشاركته أويل احتفالات الكريسماس. قلت مرة في مدينة الضعين بجنوب دارفور في احتفال كبير وقد جئتها ضمن وفد فني قبل سنوات قليلة خلت، إن الذين يتحدثون عن التهميش لا يتوخون الدقة، فالخدمات ببلادنا لا تتعدى المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية والمياه والكهرباء، وهذه الخدمات لا يخلو منها إقليم من أقاليم بلادنا، وإن استأثر وسط السودان بقدر أوفر، فلأن مشروع الجزيرة خصص 2% من دخله للخدمات.. وحتى مشروع الجزيرة تفتقر حتى اليوم بعض مناطقه لخدمات الكهرباء ومراكز العلاج، أغضب حديثي هذا الحاضرين. ومدينة أويل وهي ضمن الجنوب المهمش كما يقول البعض، يتوفر فيها ومنذ زمان بعيد مستشفى تعليمي كبير، ومدرسة ثانوية عتيقة ومجمع ضخم للمناشير ومحطة سكة حديد قديمة، ومصنع للأرز هو الأول والوحيد بالسودان، ورئاسات للجيش والشرطة ومجلس ريفي قديم تحول إلى محافظة، ثم أسست بها رئاسة للولاية، هذا بجانب مدارس الأساس والوزارات المتعددة.. وبها خدمات مياه وكهرباء ودوائر حكومية متعددة.. فكيف بالله اشتعلت الحروب بأطراف بلادنا هنا وهناك بدعاوى التهميش.. استعدت طائرتنا الكبيرة للإقلاع بعد أن أمضينا ثلاثة أيام بمدينة أويل، وقد خف حملها بعد أن أنزلنا منها هدايانا لأهل أويل.. وعدد أعضاء وفدنا لم يتعدَ الثمانية، مما يجعل الطائرة شاغرة.. وكان عدد كبير من أبناء أويل لا يجد وسيلة منذ سنين طويلة للسفر إلى الشمال ليلحق بذويه، فأذن رئيس وفدنا باصطحاب كل من يرغب في السفر، فامتلأت بالنساء والأطفال المقاعد الشاغرة، وجلس البعض في ممر الطائرة وكل مكان داخلها، وأقلع الطيار لولبياً مرة أخرى وغادر الجنوب ولم تكن تلك الزيارة هي زيارتي الأخيرة لجنوب بلادي الحبيب، إذ زرت جوبا بعد ذلك عدة زيارات.. ويحزنني أن تكون زياراتي تلك لجوبا هي الأخيرة، وأن أحصل على تأشيرة دخول إذا نويت مرة أخرى زيارة جوبا.. وهكذا ننفصل في زمان يتوحد فيه الناس من حولنا.. نسأل الله العلي القدير أن يتوحد ما يتبقى من بلادنا إن تم انفصال الجنوب، وأن يسكت المدافع ببلادنا ويشملنا برحمته التي وسعت الدنيا والآفاق إنه نعم المولى ونعم النصير.