لم يكن احتلال السودان أمرا هيناً للجيش الغازي من جهة الشمال عند العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر فقد واجه هذا الجيش مقاومة واستهجاناً من جموع المواطنين ولكن كان السلاح يتفوق على الفراسة والرجولة فى حصد الأرواح ولم يتفوق جنود الاحتلال على السودانيين فى الشجاعة والإقدام. والمعارك التى خاضها السودانيون والمقاومة الفردية للاحتلال ومعركة كرري فى العام 1898 م سجلها التاريخ وسجل سيرة البطولات وشراسة المقاومة كما سجل التاريخ أيضاً سيرة التعالي والتأفف والسلوك الخشن للحكام الانجليز الأوائل خاصة كتشنر الذي عينته حكومته أول حاكم عام على السودان وكما تروى عنه المدونات التاريخية أنه خشن السلوك حير بسلوكه هذا من يعملون معه وقيادة الحكم فى بلاده كما كان لايحترم النظم واللوائح ونقل عنه أنه كان يقول للعاملين معه لاتعملوا على تذكيري باللوائح إنها وضعت لإرشاد الاغبياء ورغم هذه الشخصية المتسلطة لكتشنر إلا أنه حاول فى فترة حكمه أن يعمل على كسب ثقة المواطنين وإرساء دعائم للحكم تتدرج حتى يحصل على احترام المواطنين لحكومته . البواخر النيلية اسهمت اسهاماً كبيراً فى نجاح غزو السودان واحتلاله وقد اعتمد اللورد كتشنر اعتماداً كبيراً على هذه البواخر التى كانت حينها تستخدم آخر ماتوصلت اليه صناعة المحركات البخارية بالاضافة الى تجهيزاتها العسكرية وقد اشتهرت باخرتان فى هذه الحملة هما الباخرة ملك والباخرة البوردين أمس الأول الأثنين نقلت أوصال الباخرة البوردين الى جهة الطابية بأم درمان بعد أن أوشكت أن تدفن رفاتها فى أحواض النقل النهري بالخرطوم بحري إذ ظلت لعقود طويلة مهملة نبتت الأشجار والحشائش فى الطين الذى ملأ غرفها وباحاتها ولم ينقذ هذا الأثر التاريخي الذى ارتبط بذكريات وتاريخ يحكي سيرة البسطاء العظماء الذين حاولوا حماية وطنهم ونصرة دينهم إلا خلال الشهرين الماضيين . فكرة إنقاذ البوردين وملك وتحويلهما الى متحف يحكي حقبة مهمة فى تاريخ السودان جاءت من والي الخرطوم عبدالرحمن الخضر ويشرف على تنفيذها لجنة برئاسة الدكتور بارودي وعضوية أساتذة كبار كالدكتور يوسف فضل وابراهيم أبوعوف وحسن حسين وآخرين من الاختصاصين فى الآثار والترميم والهندسة وقد سبق هذا العمل أيضاً لجان شكلتها وزارة الثقافة والشباب والرياضة الاتحادية السابقة إلا فكرة المتحف عند الطابية الجنوبية بأم درمان وايداع الباخرتين ملك والبوردين عندها وجدت الاستحسان والتنفيذ الفوري والذي سيتم عرضه للجمهور عند السادس والعشرين من شهر يناير الجاري لتناسب ذكرى تاريخية معروفة ألا وهى نهاية حصار الخرطوم فى 26 يناير 1885 وقتل غردون والقضاء على الحكم الأجنبي واقامة الدولة المهدية الوطنية . الباخرة ملك وجدت اهتماماً أكبر من البوردين لأنها استخدمت خلال العقود الأربعة الأولى من الحكم الاستعماري فى نشاطات للمسابقات الرياضية والترفيهية كما صارت من بعد ذلك مقراً لنادى الزوارق . ثقافة الحفاظ على المقتنيات التاريخية تعوز معظم السودانيين والأن تجاوز عمر الدولة الحديثة فى السودان المائة عام وكل متعلقات العقد الثاني وماقبله من القرن العشرين يجب أن يكون بيد هيئة الآثار خاصة المباني والمتحركات والوثائق والمخطوطات حتى لانكون أمة بلا ذاكرة مادية تحكي تاريخها للأبناء والأحفاد ولضيوف السودان وزائريه .