إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر بهذه الأبيات استهل إسماعيل العتباني فرحته بالاستقلال الذي أسهم هو وأبناء جيله في تحقيقه، فأصدر الرأي العام مزينة بهذا البيت، بل أصدر عدداً خاصاً كان سجلاً وطنياً لهذا الحدث، ونسجت على منواله بقية الصحف (السودان الجديد) و(الأيام) وصوت السودان، والأمة والنيل.. ودرجت الصحف على هذا التقليد (عدد الاستقلال الخاص) إلى أن أطلت مايو فتوقف كل هذا - وأهيل التراب والرماد على كل هذا المجد - ومسح كل تاريخ السودان باستيكة وكأن التاريخ قد بدأ في 25 / 5 / 1969 - فكان صناع الاستقلال في المعتقلات إسماعيل الأزهري في كوبر، وظل سجيناً إلى أن فارق الحياة وحظر تشييعه أو إكرامه كرأس للدولة ومحرر للبلاد وزعيم أمة - ورفيقه المحجوب محبوساً رهين مسكنه في الإقامة الجبرية- وبقية صناع الاستقلال بلا استثناء داخل أسوار المعتقلات ومورس ضدهم كل أنواع القتل السياسي والأدبي والمعنوي، وشكلت لهم محاكم زائفة، وقد وجد الحزب الصغير الذي أمسك بزمام الأمور والعسكرتارية المتعاطفة معه.. بل والمنقادة له، فرصته الذهبية في الانتقام من هذه الرموز وهذه القوى، فردت لهم الصاع صاعين.. وكان نتاج هذا التجاهل المتعمد لرموز هذه المرحلة التاريخية المهمة والخالدة، والتي بدأت منذ الندوة التاريخية في ود مدني في ثلاثينات القرن الماضي، ثم قيام مؤتمر الخريجين ومذكرته الشهيرة في مطلع الأربعينات - ثم تبلور الحركة السياسية وقيام الأحزاب الكبرى التي حققت الاستقلال حزب الأمة والجبهة الأستقلالية بزعامة السيد عبدالرحمن المهدي وأعوانه عبدالله الفاضل وعبدالله خليل ومحمد أحمد محجوب وصديق المهدي وإبراهيم أحمد وأمين التوم وعبدالرحمن عابدون وعبدالرحمن علي طه وحسن محجوب ونقد الله والقائمة تطول.. والحزب الوطني الاتحادي بزعامة السيد إسماعيل الأزهري ووكيل الحزب محمد نور الدين ودينمو الحزب يحي الفضلي وإبراهيم جبريل وإبراهيم المفتي والشيخان المرضي وعلي عبدالرحمن، وأمين السيد وأحمد السيد حمد وإبراهيم المحلاوي وحسن محمد زكي والقائمة تطول.. وكل هؤلاء في إطار الجبهة الاتحادية برعاية السيد علي الميرغني، ومع كل هؤلاء أجيال من أهل السياسية والفكر والثقافة والوطنية والأدب والشعر والتجارة والاقتصاد والقائمة تطول.. وأبت النظم الشمولية البائدة إلا أن تهيل التراب على كل هذا إلى المدى الذي وصل فيه الأمر إلى إلغاء الاحتفال بالاستقلال ف«يعدي» يوم الأول من يناير.. يوماً حزيناً لتنكر أبناء جيل ناكر للجميل لكل هذا الاباء وكل هذا الشموخ.. ولو سألت الآن أبناء هذا الجيل، وقد بلغ بعضهم الآن الخمسين، عن أي رمز من هذه الرموز لنظر إليك في اندهاش.. ولكان حالهم مثل ذلك الطالب المسكين الذي سُئل عن عبدالله خليل، فقال عبدالله خليل محطة تجاور محطة مكي.