السودان وإستفتاء تقرير المصير لجنوبه في واجهة كل الأخبار الآن، فهما المبتدأ ، وهما الخبر دون شك، وهما الموضوع الرئيسي في أكثر الصحف العربية والإقليمية والعالمية.. ولم تخل صحيفة عربية صدرت بالأمس من موضوع عن السودان وأبرز حدث تاريخي يمر به الآن، وهو الاستفتاء على تقرير مصير جنوبه.. الذي يعني بالضرورة تقرير مصير السودان بأكمله لا تقرير جزء من أجزائه لأن كل أجزائه لنا وطن. الأقلام العربية كانت تسجل معاني الغياب العربي في الساحة السودانية منذ الاستقلال، وكانت تذرف الدموع بدلاً عن المداد، وغلبت العواطف على الكثيرين حتى أصبحت هي التي تملى عليهم ما يكتبونه. على الرغم من ذلك برزت أقلام صحفية عربية ذات رؤية عقلانية وحكيمة ، تكتب بعيداً عن العواطف والدموع بفهم عميق لواقع قديم يجعلنا نقف جميعناً في مفترق طرق جديد خال من اللافتات التي تبنى الاتجاهات ونتماسك لعبور فضاء مجهول يتطلب الأمر عنده ألا نبكي على اللبن المسكوب. من بين الأقلام التي أشرنا اليها، جاء قلم الكاتب الصحفي السعودي الكبير الأستاذ يوسف الكويليت ليسطر لنا تلك الرؤية العقلانية تحت عنوان (إنفصال بالإكراه .. أم بالتوافق؟) وقد نشرت مقاله إحدى أكبر الصحف العربية السعودية .. ولم نجد بداً من أن أفسح لمقاله المجال.. ولم أجد حرجاً في أن أقارن بين ما كتبه هذا القلم الشقيق المشفق، وبين ما يخطه البعض هنا لزيادة النفق والجرح بدلاً عن مداوات الالتهاب الناتج عنه. *** كلمة الرياض انفصال بالإكراه.. أم بالتوافق؟! * يوسف الكويليت خلال الأيام القادمة ستُدفن وحدة الشمال مع الجنوب السوداني، ودواعي الأزمة لم تبدأ حديثاً، بل تخللتها عوامل قهر وتجويع، أوما يشبه الفصل العنصري من قبل الحكومات الانقلابية المتعاقبة التي حطمت الديموقراطية الوليدة بعد الاستقلال في الشمال وحولت البلد من مصدر للأغذية إلى جائع مدمر اقتصاديا، عندما وجهت موارده للتسلح والصرف على أجهزة الاستخبارات والأمن التي تلاحق المعارضين واللا «راضين» عن الأوضاع سواء من علق نياشين ستالين، أو شعار الدين، وأعلام الغرب.. الانفصال صار أمراً حتمياً، والمنطق يفرض استيفاء شروط هذه المرحلة من دون تسييل للدماء بين القطاعين، وحتى مرحلة الأيام الأولى التي قد تبدأ بالأفراح في الجنوب، والحزن في الشمال سوف تلقي بظلالها على ما بعد الانفصال والبدء في بناء الدولة الجديدة في الجنوب، ومن يعتقد أن الوليد بلا عاهات أو تعقيدات يرى الأمور بنصف عين، لأن متطلبات إنشاء دولة، هي بذاتها معجزة في مجتمع تحوطه أمية قياسية، وتنافر بين القبائل وأصحاب الديانات وتداخل هذا المجتمع مع بلدان الجوار التي لا يُخفى دور تدخلها في الماضي والمستقبل.. قد تكون هذه الصورة غير متفائلة، لكنها الحقيقة، يبقى دور الشمال في الدعم وعدم التدخل، فبتر العلاقة لا يؤثر في أمن الجنوب فقط، بل أيضاً في الشمال، لأن الجغرافيا سوف تأخذ مدارها في ترسيم الحدود، وتقاسم مياه النيل، والنفط، والتعايش بين أبناء القطاعين سواء من سيبقى في أي من الدولتين، وهي مسائل ستكشف الأيام مآزقها على طرفي العلاقة.. وكما ظل الدور العربي مفقوداً والإفريقي مشلولاً، فإن اللاعبين الأساسيين ظلوا من خارج القارة، وهي مسألة تخدم مصالح تلك الأطراف، والدليل أن الانقسامات في أوروبا أو من ظل يعلن انفصالاً في أي دولة، يُردع بقوة القانون، والأمثلة كثيرة في إيطاليا، وبريطانيا وإسبانيا، بل إن توحدهم لم يحدث إجراءات سياسية معقدة، وتوحد الشرق مع الغرب الألماني نموذج ذلك.. ليست هناك أوراق ضاغطة عند الشماليين أو الجنوبيين إذا ما تم الاستفتاء والانفصال، وهنا لا بد أن يكون الواقع أقوى من أي مبرر آخر، بحيث لا تنقطع العلاقة ولا يتم القفز على المجهول، وعلى مطالب الشعبين أن تبدأ بخلق أجواء مصالحة تُبنى على أسس الجوار الآمن المبدد لأي مخاوف.. وعلى حكومة الخرطوم باعتبارها الأقوى في مؤسساتها وكيانها، أن تتعاون مع جارتها، وإلا ستدفع الجنوب إلى أحضان دول أفريقية، أو خارجية بما في ذلك التعامل مع إسرائيل، فالأمور إذا تراكمت الشكوك فيها، قد تبدأ بشرارة تنتهي إلى حريق، ففي زمن الانفصال تبقى حاجات الطرفين الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، أساسيات لكليهما.. المتفائل والمتشائم من أحداث المستقبل يضع مقاييسه ويخضعها للماضي ومناوشات الحاضر، وفي كل الأحوال رحلة السودانيين عسيرة، ولكنها ليست النهايات البائسة..