السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانفصال: هل هو زفرة العربي الأخيرة ؟ .. بقلم: جمال محمد ابراهيم
نشر في سودانيل يوم 23 - 01 - 2011


جمال محمد ابراهيم *
( 1 )
حين كتب الشاعر المصري الراحل أحمد رامي قصيدته الغنائية "قالولي هان الود عليه" ، واستنطقها لحناً بديعاً، موسيقار الشرق محمد عبد الوهاب ، وشدتْ بها الفنانة الراحلة فايزة أحمد ، ثم شغفنا بها ذلك الشغف العارم ببدائع تلك السنوات الذهبية ، ما جال بخيالنا ، نحن جيل أواسط القرن العشرين ، أن الذهب قد لا يدوم فينا، وأن طلاوة الشعر الغنائي ستنحدر إلى توحّش بغيض، تشهر فيه المسدسات والرشاشات في وجوه العاشقات، وأن أنهار الموسيقى العذبة ستغدو صخبا منكراً وضجيجاً منفّرا.
لكن أيّ قلب تقترب منه كتابتي هذه المرة، فيما أرى الودّ الذي ألف بين قلوبنا في هذه البلاد، قد أوشك أن ينقلب عداءاً، وأن أحمد رامي كتب محقاً أن الودّ في معناه قد ضاع، وأن من كان حرياً به رعايته وحفظه، قد آثر إهماله والاستهانة به ، استخفافاً أثار شهية الشامتين، فأيّ قلبٍ وأيّ ود؟ كنت أستمع لهذا الشريط القديم بصوت عبد الوهاب ، فرأيت أن أهديه للأشقاء في السودان الجنوبي . نعم السودان الجنوبي وقد أخذه الاستفتاء بعيداً عن شماله الشقيق.
( 2 )
كثيرة هي الكتب التي أرّخت لضياع الأندلس . كثيرة هي الحسرات سطرت عن هذه المأساة ، ولكن تظل رواية اللبناني أمين معلوف ، ذلك العمل الروائي المذهل، بما حوى من تفاصيل صيغت في قالبها الروائي، ولكنها ما جافت الوقائع بكثير مجافاة، مثلما جرى رصدها في كتب التاريخ ومن مؤلفات " حسن بن محمد الوزان" ، بطل الرواية نفسه . كتب أمين معلوف على لسان بطله : ( أما أنا فلست أدري ما إذا كان الكنز الذي جمعه طويلاً الحكام النصريون لا يزال مدفوناً في تلك الأرض من بلاد الأندلس، بيدَ أني لا أظنّ ذلك، لأن منفى أبي عبد الله لم يكن يرجى معه الرجوع، وقد سمح له الروم بأن يحمل معه كل ما يرغب في حمله. وهكذا فإنه رحل إلى النسيان غنياً ولكن بائساً، وعندما اجتاز آخر ممر جبلي كان في وسعه أن يرى بعدُ منه غرناطة، ظلّ طويلاً ساكناً مضطرب النظرات شارد الذهن من الهول، ولقد سمّى القشتاليون هذا المكان "زفرة العربي الأخيرة"، إذ ذرف فيه السلطان المخلوع على ما يقال بعض عبرات الخزي والندم . ولربما رمته أمه فاطمة في تلك اللحظة بالقول : "تبكي كالنساء ملكاً لم تحسن الذود عنه كالرجال !" ) ص 64 من رواية ليون الأفريقي، للكاتب اللبناني أمين معلوف ، ترجمة عفيف دمشقية – دار الفارابي،ط3 ، 1997.
أنظر حولي فأرى من بعض تداعيات انفصال جنوب السودان عن شماله، هي هذه العواطف الجياشة التي لا تكاد تصدق أن واقعاً جديداً قد أطل ، وأن الدمع المسكوب لا يعدو أن يكون محض مناورات خاسرة ، لا تجدي فتيلا ، ولا تورث شيئاً يذكر . لقد عرف من بصم على وثائق نيفاشا منذ 2004 و2005 ، أن حق تقرير المصير، أمر مفضٍ إما إلى الإبقاء على الوحدة أو المضي بالبلاد نحو الإنفصال، وإنشاء دولة جديدة في السودان الجنوبي . فهل تختلف هذه الدموع والمبكيات عن دموع أبي عبد الله الأحمر، وهو يودع ملكه وسلطانه ويخرج من غرناطة، آخر المدن والقلاع العربية في اسبانيا في عام 1492، ثم تلاقيه أمه بقولها الجارح، أسيفة منكسرة : "أبكِ كالنساء ملكاً لم تحسن الذود عنه كالرجال . . "
( 3 )
لكن يظل العقل – لا البكاء ولا الزفرات الحرّى- هو المطلوب للنظر في المآلات وفي التداعيات. ورأيت أن آخذك عزيزي القاريء، إلى المحور الذي لا يظهر كثيراً في المحاور العديدة التي ينظر فيها السياسيون هذه الآونة . المحور الدبلوماسي هو مما لم يُفصل فيه في اتفاق السلام الشامل عام 2005 ، ولقد كان خيار الإنفصال أبعد من أن يجول بأذهان المتفاوضين في نيفاشا وقتذاك.
بعد ممارسة الأستفتاء بواسطة "أبناء شعب جنوب السودان" كتعبير يترجم حق تقرير المصير الذي أقرته اتفاقية السلام الشامل (2005)، واعتمده الدستور الإنتقالي (2005)، صرنا الآن ازاء واقع جديد، برزت فيه دولتان إلى حيز الوجود السياسي والجغرافي، وهما دولة السودان الشمالي، وهي حسب القانون الدولي "الدولة الخلف"، ودولة السودان الجنوبي، وهي "الدولة السلف". تشهد التجارب القديمة والجديدة في خلافة الدول، أن فضّ الاشتباكات بين الخلف والسلف، يظل أمراً بالغ التعقيد وليس من ميسور الأمور القانونية.
حدد قانون الاستفتاء عدداً من القضايا التي يتوجب النظر فيها، حال وقوع الانفصال وكما وردت في الفقرة (3) من المادة 67 ، هي : ((الجنسية، العملة، الخدمة العامة، الوحدات المدمجة والأمن الوطني والمخابرات، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، الأصول والديون، حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره، العقود والبيئة في حقول النفط، المياه، الملكية، أية مسائل أخرى يتفق عليها الطرفان))، وبرغم عدم ورود المحور الدبلوماسي، كجانب هام ستصل إليه تداعيات الإنفصال ، فإن الإشارة متضمنة في بعض هذه القضايا المشار إليها في القانون، مثل المعاهدات الدولية والمديونية الخارجية والمياه الإقليمية . في الأسطر التالية أتناول في جوانب ثلاثة هذا الواقع المستجد الذي طرأ بعد ما استقبلنا نتيجة الإستفتاء بسلاسة ، ويكاد يشهد العالم أنها على شفافيتها ، فقد دحضت تلك الشكوك والريب التاريخية التي جعلت من نقض العهود والتنصل عن المواثيق وصمة لا تبرح وجه الشمال. ثم أدلف معك في جانب ثانٍ إلى تلك الإجرائيات التي لا وقت لإهمالها أو لتجاوزها أو للإستهانة بأولويتها . وفي الجانب الثالث أرى من الضرورة أن تلتفت الدبلوماسية السودانية إلى استشراف خطة مستقبلية ، تستصحب الواقع الماثل بعد الإستفتاء ، كما تعيد ترتيب الأولويات لمستقبل قادم، قد يحمل في طياته إحتمالات استدامة هذا الواقع، أو النكوص عن الإنفصال والعودة الآجلة لكيان يتحد من جديد، بمعايير واشتراطات جديدة ..
أولاً : الواقع الجديد:
هنالك واقع جديد ستبرزعلى إثره دولة السودان الجنوبي، كدولة خلف Successor State ،والسودان الشمالي كدولة سلف Predecessor State. فيما يتعلق بخلافة الدول ، أي نشؤ دولة من دولة أو انفصال إقليم عن إقليم، فإن القانون الدولي لم يصل إلى موافقات عامة حوله ولا على إجماع تتضمنه مواثيق ملزمة للدول كافة.(فيصل ع. ع. طه: بعض الجوانب القانونية لانفصال جنوب السودان- دراسة : موقع سودانايل الإلكتروني- أكتوبر 2010) ،ويظل التفاوض الوسيلة المثلى لوضع ترتيبات خلافة الدول، وتظل نوافذ القانون الدولي مشرعة لتدارس تجارب الدول ، ومن بينها لا شك تجربة السودان الجديدة، في ممارسة حق تقرير المصير لشقه الجنوبي، وهي الممارسة التي يعرف الجميع ، في الإقليم كما في العالم ، أنها ممارسة أغفلت توافقا في ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية السابقة، والتي ورثت مواثيقها منظمة الاتحاد الأفريقي الحالي، على الإعتراف بحدود الدول التي ورثتها القارة الأفريقية عن القوى الاستعمارية السابقة ولم تجز في أي وقت من الأوقات تغييرها أو تعديلها . ملامح الواقع الجديد ، اختزالاً لا اختصارا قد لا تخرج عن المعطيات التالية :
1- لنسم الأشياء بأسمائها، إذ سيشهد السودان في خلال أشهر قليلة مصيرا جديداً تنشأ على إثرها دولة جديدة هي دولة السودان الجنوبي. وفي المحور الدبلوماسي الذي أتناوله هنا فإن قيام هذه الدولة لا يعني بالطبع، تقليص التمثيل الدبلوماسي لدولة السودان الشمالي في الخارج ( 65 بعثة دبلوماسية وقنصلية حالياً). لعل خروج دولة جنوبية عن السودان الحالي سيعني المزيد من الأعباء، في مواجهة معطيات جديدة سيفرزها الانفصال.
2- قيام دولة السودان الجنوبي سيعني جغرافياً تقليص عدد بلدان جوار السودان الشمالي ( خروج كينيا ويوغندا والكونغو من المنظومة..) . ذلك وضع يتطلب إعادة صياغة العلاقات القنصلية والتجارية على وجه خاص مع هذه البلدان. لكن يبقى جانب الترتيبات الأمنية تحدياً ماثلاً ، إذ أن دولة الجوار الجديدة ستشكل هواجس بالغة التعقيد ، وتستوجب استراتيجيات مدروسة لاستدامة الثقة، واستقرار العلاقات مع الجار الجديد ، كما قد تحيل السودان الشمالي إلى ابتداع صيغ مبتكرة لتعاون إقليمي لا يعزله عن منظومة بلدان شرق افريقيا، ولا منطقة البحيرات في قلب القارة الأفريقية.
3- في جانب الموارد البشرية، سيقع نقص في الكادر الدبلوماسي في دولة السودان الشمالي، بعد خروج أبناء السودان الجنوبي من الجهاز الدبلوماسي للسودان الشمالي (القديم) ، بما قد يصل إلى 25%. ومن المعلوم أن وزارة الخارجية في الخرطوم، هي من الوزارات القليلة التي التزمت بتعيين النسبة التي أقرّتها اتفاقية السلام الشامل(2005)، لاستيعاب الجنوبيين ضمن كوادر الوزارة في فترة ما قبل حق تقرير المصير . سيكون من اللازم إذن ، دعم هذا الجانب في وزارة خارجية السودان الشمالي، لا الجنوح إلى تقليص كوادرها أو إنقاص اعتماداتها المالية في سياسة التقشف التي تتبناها وزارة المالية حالياً. ولقد كانت التفاتة وزير التعاون الدولي في حكومة الوحدة الوطنية إلى هذا الأمر، مؤكدا ضرورة دعم الدبلوماسية في السودان (الشمالي)، حين نوقشت السياسات التقشفية هذه في المجلس الوطني مؤخراً ، هي مما يؤكد أهمية ما نشير إليه هنا .
ثانياً : إجرائيات عاجلة :
1- على السودان الشمالي أن يترجم الإعتراف بنتيجة الإستفتاء إلى اعتراف فوري بدولة السودان الجنوبي وسيادتها الكاملة على ذلك الإقليم ، ولعل من حسن النوايا ومن مطلوبات بناء جسور الثقة مع الدولة الناشئة، أن يكون السودان الشمالي، أول دولة تعترف باستقلال السودان الجنوبي. ولنا الاقتداء بالتقليد السابق، حين استقل السودان بشكله القديم في عام 1956، فقد سارعت دولتا الحكم الثنائي- بريطانيا ومصر- إلى ذلك فكانتا أول المعترفين باستقلاله وبسيادته على أراضيه.
2- من الضرورى الإلتفات الفوري لوضع ترتيبات قانونية جديدة تتعلق بالإلتزامات الدولية لكلا الدولتين، خاصة فيما يتصل بالإتفاقيات والمعاهدات الدولية، مع الأمم المتحدة وهيئاتها ومنظماتها المتخصصة، بدءاً بميثاقها الشهير وحتى معاهدات المياه والبيئة الأخيرة . وفق العرف الدولي، يكون على السودان الشمالي أن "يعدّل" في صيغة التزاماته في الإتفاقيات والمعاهدات الدولية ، أما السودان الجنوبي فعليه التقدم بطلب جديد ومستقل للإنضمام للمعاهدات والمواثيق الدولية، باعتباره دولة جديدة. يكتب خبير القانون الدولي العلامة فيصل عبد الرحمن علي طه : (( يتعين على الإقليم المنفصل - الجنوب مثلاً إذا تم الانفصال - أن يتقدم بطلب عضوية للمنظمة المعنية. وقد حددت الأمم المتحدة موقفها من هذه المسألة منذ عام1947 عندما رفضت إدعاء باكستان بأنها خلف مشارك Co-Successor للهند وتستحق عضوية الأمم التحدة تلقائياً، وقررت أن باكستان دولة جديدة وينبغي عليها التقدم بطلب عضوية. ))، (أنظر فيصل ع. ع. طه: المصدر أعلاه، أكتوبر 2010).
3- يتعين على كلا الدولتين الشمالية والجنوبية أن تشرعا في وضع ترتيبات قانونية جديدة تتعلق بالإلتزامات الواقعة على كلا الدولتين فيما يتصل بعلاقاتهما الاقليمية: ( الإتحاد الافريقي- إيقاد – المؤتمر الإسلامي – كوميسا – المصرف العربي للتنمية في افريقيا – بنك التنمية الأفريقية . . إلخ ). وأيضا وفق العرف الدولي، على السودان الشمالي القيام بتعديل التزاماته المترتبة على الاتفاقيات الدولية والمواثيق التي وقع عليها، ويبقى على السودان الجنوبي التقدم بطلب جديد ومستقل للإنضمام للمنظمات والهيئات الإقليمية، إذا رغب في ذلك، (أنظر فيصل ع. ع. طه: المصدر أعلاه، أكتوبر 2010) .
4 - ينبغي الشروع في تفاوض إقتصادي بعون دولي لتسوية المديونية الخارجية، وهي من الأمور الشائكة ولكن لا ينتظر أن تطول تسويتها بسبب إتصالها بتوجهات خاصة بمستحقات للسودان الشمالي لموافقته على منح حق تقرير المصير لأبناء السودان الجنوبي، وبالتالي للنتيجة التي وصلنا إليها من إنشاء دولتين في السودان القديم . من الحالات التي تسترعي الالتفات والدراسة ، حالة خروج بنغلاديش كدولة خلف من باكستان كدولة سلف. ثمة تعقيدات تستوجب تدخلات من أطراف اقتصادية خارجية لحسم جوانب هذا الملف.
5- بعد إكمال الترتيبات المتعلقة بتسوية قضية أبيي ، من الضروري الاتفاق على إنشاء لجنة سياسية فنية مشتركة فورية لترسيم الحدود بين الدولتين وفق الحدود الإدارية لعام 1956، يبدأ عملها من حيث انتهت إليه اللجنة القومية الحالية.
6- تحتاج دبلوماسية السودان الشمالي لمزيد من الفعالية والتفعيل لمقابة متطلبات مرحلة إعادة ترتيب الأوضاع في محيطه :
أ – من المناسب أن ينشيء السودان الشمالي دائرة/مفوضية متخصصة لشئون السودان الجنوبي بالتعاون والتنسيق بين وزارات الخارجية والتعاون الدولي والأمن الوطني في السودان الشمالي. ولبيان أهمية ذلك نضرب مثلين قريبين. الحالة الأولى هي حالة مصر إذ حتى تاريخ كتابة هذه المذكرة، فإنها تعالج شئون السودان في إطار إدارة خاصة، تشكل وزارة الخارجية المصرية جزءاً منها. أما بريطانيا- شريك مصر الأكبر في الحكم الثنائي (1898-1956)- فقد ظلت تعالج شئون السودان تاريخياً، في وزارة الخارجية البريطانية، وليس وزارة المستعمرات القديمة. في الآونة الأخيرة، فقد كانت هذه الشئون تعالج في إطار إدارة مستقلة هي "وحدة السودان" ضمن إدارة كبرى للشرق الأوسط وشمال افريقيا في وزارة الخارجية البريطانية ، كان السفير الآن قولتي (سفير بريطانيا الأسبق في الخرطوم) أول من تولى إدارتها في عام 2001.
ب – قياساً على ذلك، سيكون من الأوفق أن ينشيء السودان الشمالي سفارة في جوبا بمستوى عال وخاص، بهدف رعاية الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية والإجتماعية الراسخة والمميزة مع السودان الجنوبي، خاصة وأن دور البعثات الدبلوماسية، بعد ثورة الاتصالات واندياح المعلوماتية، قد تجاوز مهمة جمع المعلومات ودبلوماسية الغرف المغلقة، إلى دور يلائم العصر فيعمل على تفعيل الصلات وتمتين الأواصر وتعزيز القائم منها، في عالم تقبل أطرافه على بعضها البعض، في تعاون خلاق وانفتاح شفيف.
ج - يكون على الدبلوماسية في الدولة الخلف وفي هذه الحالة هي دولة السودان الشمالي، دوراً مضاعفاً في أن تبقي على دورها التاريخي الفاعل، خاصة على مستويات دوائر انتمائها العربية والأفريقية والإسلامية .
- ه إلى ذلك ستتضاعف المهام الدبلوماسية لوزارة خارجية دولة السودان الشمالي، خاصة في مجال الدبلوماسية العامة، للتعريف بالأوضاع الجديدة، وأن تتبع دبلوماسية المبادأة الفاعلة، لا دبلوماسية إطفاء الحرائق ، وبما لا يفقدها ذلك الدور الأبوي الراعي للدولة السلف. مطلوب أيضاً ذلك الجهد الخلاق والمطلوب لترسيخ قبول الدولتين الخلف والسلف ، في المحافل الدولية والإقليمية، وفي التوجه العام من قبل وزارة خارجية السودان الشمالي، لحل النزاعات الداخلية في مختلف أقاليمها، خاصة دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق (جنوب ما بعد الانفصال).
و- ولبناء جسور قوية من الثقة ودوام الاطمئنان، على السودان الشمالي أن يقدم المساندة اللوجستية الناعمة لبناء جهاز دبلوماسي في السودان الجنوبي، في اطار حسن النوايا بين خلف وسلف، وفيما إذا رغب الطرف الأخير في ذلك.
ثالثاً : إجرائيات آجلة:
من الأوفق أن تنظر الدبلوماسية الخاصة بدولة السودان الشمالي في وضع خطة تقرأ التاريخ جيداً، كما تقرأ المستقبل . لن تقتصر هذه السياسة والخطط على ما أورد أدناه ، ولكن تظل هذه المحاور من الأهمية بمكان.
أ- على السودان الشمالي تعضيد الروابط الأفريقية والإبقاء على جذوة الإنتماء الأفريقي إلى جانب الإنتماء العربي والإسلامي، بما يقارب بين التوجهات الخارجية بين السودانين، في الساحتين الدولية والإقليمية.
ب- البناء على ما هو قائم من روابط تاريخية واجتماعية ووجدانية، ومواصلة الحوار الايجابي، بعيداً عن الاستئثار وإقصاء الآخر، وأن تكون على أفق واسع يعتمد مقومات العيش المشترك ، تشارك فيه الأجهزة الرسمية وتنظيمات المجتمع المدني ومختلف التيارات السياسية ، لخلق وتأسيس ترتيبات تكاملية بين دولتي الشمال والجنوب، بما يزيد على صيغة "الكونفيدرالية" ويقترب من صيغة "نظامين في بلد واحد".
ج - يظل ملف المياه من أهم ملفات المستقبل ، كما الحاضر. سيكون على الدولتين بناء قنوات لمعالجة دبلوماسية مياه النيل.. ثنائيا واقليمياً، وإعلاء قيمة التعاون الإقليمي في هذا الملف.
( 4 )
نأمل في ختام هذا المقال، أن لا يكون في قيام دولة في السودان الجنوبي مدعاة لشماتة أو محفزاً لإثارة نعرات التنازع في بعض أقاليم السودان الأخرى ، بل أن يظل التنوع نعمة علينا أن نستقبلها ، لا نقمة نتحرّى استدبارها . لا نأمل أن يكون الجنوب اندلساً فقيدا ولن يهون الود ما بين الأشقاء . لا ولن تنغلق الأبواب ولا النوافذ بين الدولتين . يبقى الأمل نابضاً في أن يحافظ السودان على اسمه هنا أو هناك ، فذلك من مبقيات وجدانٍ ما زال مسكوناً بعشق وطن واحد، برغم كل شيء. .
* سفير السودان السابق في لبنان.
الخرطوم – 22 يناير 2011
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.