مظاهر الفرح التي أبداها كثير من الجنوبيين بالاستفتاء أو بالأحرى بالانفصال، والتي سارعت فضائيات العالم لالتقاطها وتكرار بثها مظاهر تبعث الدهشة... فالجنوبيون برقصاتهم وهتافاتهم وشعاراتهم التي تقول (باي باي الخرطوم) أو (طلاق ثلاثة أم درمان) وغيرها كلها تكشف أن الجنوبيين يعيشون فعلاً في خدعة أمريكية بجنة موعودة، وما أكثر الوعود الأمريكية بالجنان، والتي نجدها حتى في واقعنا الدولي الماثل وليست التجربة الافغانية أو العراقية ببعيدة، فعندما أرادت أمريكا غزو افغانستان أغدقت في وعودها للأفغان من جنة فيها كل ما لذ وطاب، ومالا عين رأت ولا أذن سمعت.. رخاء وديمقراطية وأمناً ولكن الواقع أكد أكاذيب أمريكا، حيث تحول كل شيء بعد غزوها إلى ضده للدرجة التي أصبح فيها الأفغان يتمنون أن يعادوا إلى الحالة التي وجدهم الأمريكان فيها، بعد أن ساءت حالهم أكثر مما كان يتصور أي متشائم منهم، وكذلك الأمر في العراق الذي كان دولة قوية غنية وآمنة، والتي عندما أرادت أمريكا غزوها واحتلالها وعدت شعبها بانهاء نظام صدام حسين من أجل الديمقراطية ورفاه الشعب، ليمضي صدام ويدخل الأمريكان ويبقون فيها لسنوات ولا ديمقراطية ولا رخاء ولا أمن، وهكذا أمريكا التي وعدت الجنوبيين بجنة الجنوب بعد الانفصال بعد أن أقنعتهم بأنهم كانوا في جحيم الخرطوم، وهذه القناعة هي التي نجحت اللوبيات المؤثرة على قرارات الحكومة الأمريكية باقناع قيادات نافذة في الحركة بها والتي بدورها أقنعت بقية قيادات الحركة ممن كانوا مع الوحدة أو الآخرين الذين يقفون في المنتصف، ليقنعوا بدورهم شعب الجنوب، مستخدمين كافة آليات حكومة الجنوب في الاقناع لتأتي مظاهر الفرح من هذه القناعات الجديدة المبنية على وعود السراب، يأتي دون أن تعمل الحركة عقلها في الحساب لتدرك الفرق بين صدق الشمال مع الجنوبيين وبين صدق أمريكا معها، ولو فعلوا لتأكد لهم أن الوعود الأمريكية حلم كاذب لن يجني غير الإحباط وضياع الوقت، وخلق أثر سالب من جراء الاحتفالات الاستفزازية التي من شأنها خلق التباعد بين قريبين الشيء الذي تريده واشنطن وتل أبيب.. المهم أن دعاة الانفصال فات عليهم وسط عمليات تغييب عقولهم التي قامت بها أمريكا، أن فصل الجنوب لا يأتي من أجل جنة تريدها أمريكا للجنوبيين من أجل سواد عيونهم، ومعلوم أن أمريكا تحركها أجندتها وأن أجندتها في السودان هي تقسيمه إلى دويلات تسهل السيطرة عليها، وأنه بحسب اعتقادها إنها بفصل الجنوب تفتح شهية الانفصاليين الآخرين في أقاليم السودان الأخرى، ومن هنا جاءت بعبد الواحد محمد نور إلى الجنوب وسط عمليات تأمين قوية، ثم جاءت بعدد آخر من قيادات حركات دارفور المسلحة إلى جوبا لتستخدمهم للضغط على الحكومة لاجبارها على إقامة الاستفتاء في موعده، ثم الاعتراف بالنتيجة، ثم ليكونوا كرتاً في يد الحركة في مفاوضات القضايا العالقة المرتقبة، وبالتالي جاء إعلان كيري المتسرع في جوبا الأيام الماضية عن رغبة أمريكا في التوسط في قضية دارفور، والذي يتطلب من الحكومة أن تبتعد فيه عن حسن النوايا مع أمريكا، التي كانت مع خياري الوحدة والانفصال، وكلها بدلاً من الحياد دعمت الانفصال وظل مبعوثوها حريصين على إقامة الاستفتاء لضمان الانفصال الذي تريده أمريكا، ليكون بادرة مشجعة لبقية أقاليم المخطط الأمريكي الصهيوني مع الفرق طبعاً بحكم اختلاف طبيعة المناطق التي تظن أمريكا أنها مثل حالة الجنوب. أخيراً: إن وعود أمريكا بإنشاء قاعدة في جوبا من شأنها الحد من حدوث أي عنف قبلي، بجانب حماية الدولة الوليدة ووعدها بتحقيق الرفاهية للمواطن الجنوبي، والقفز به إلى النهضة الشاملة بعد إعمار الجنوب، الذي تعهدت به مع معالجة عجوزات الميزانيات في الجنوب، كلها جنات وهمية تخدع بها البسطاء الذين لا يتعظون من غيرهم، بل لا يتعظون من أنفسهم، فأمريكا ومن معها من المانحين هم الذين وقعوا في نيفاشا تعهداتهم باعمار الجنوب خلال سنوات الانتقال، ولا شيء تحقق غير الذي انجزته الحكومة القومية التي أكدت أنها أصدق من أي أوهام، وهكذا ستؤكد السنوات وأقول السنوات القريبة جداً، والتي ستؤكد للرافضين والهتيفة والمودعين لنا أي جنة هم موعودون بها غير جنة السراب الأمريكية.