في مقال سابق تحدثنا عن براءة الشريعة الإسلامية من انفصال الجنوب، وحددنا أن مسيرة الانفصال بدأت بالجنوب مع أحداث توريت التي مارس فيها المتمردون على الجيش السوداني إبادة جماعية للشماليين المتواجدين آنذاك في الجيش السوداني، بل وتم إعدام عدد من الأطفال في تلك الأحداث، وهي عملية لاستئصال الشماليين في الجنوب، وهذا يعبر عن كره للشمال ترعرع في كنف الاستعمار البريطاني، واستهانة القوى السياسية الشمالية بالإنسان الجنوبي، الذي لم يقبل قرار البرلمان الخاص باستقلال السودان إلا بعد إضافة حق الجنوبيين في الحكم الفدرالي، والذي قصد منه أن يكون خطوة للانفصال، وقامت الحرب بين الشمال والجنوب وأحسب أن الشماليين العقلاء كانوا قلة، ولكنهم يدركون رغبة الإنسان الجنوبي، وفي واقعة شهدتها تقدمت جهة بعرض لإغتيال جون قرنق، وكانت القوات المسلحة تخوض حرباً ضروساً مع الجيش الشعبي المدعوم من كل دول الغرب وأذكر أن السودان رفض العرض واعتبره مجافياً لكل معاني الإنسانية والأخوة، وأن جون قرنق مقاتل من أجل قضيته، وأن الجيش الشعبي يستطيع أن يقدم العشرات لقيادته، إذن المجموعة التي رفضت الإغتيالات كانت تعلم أن الحرب شعبية يقودها الجنوب ليس القائد جون قرنق وحده. ونضيف أن الأخ الحكيم القاضي أبيل ألير قد عبر في كتابه «نقض الوعود» عن أسس المطالبة الجنوبية بالانفصال عن الشمال، وقيام دولة للجنوبيين ترعى مصالحهم، وإن كان الكتاب لم يعبر عن هذه الرؤية صراحة، وكذلك الأدب الذي بثه فرانسيس دينق في روايته، ولكنه كان مهذباً في عرض الدعوة للانفصال.. أما القائد جون قرنق الذي عبرت عنه رفيقة دربه ربيكا في بداية أيام التصويت حول تقرير المصير بأنه ناضل وجاهد من أجل هذا اليوم، وقالت إنهم لمثل هذا اليوم كانوا يعملون، في لحظة اختلط فيها الفرح بالحزن، الذين يروجون لجون قرنق الوحدوي كاذبون ولم يقرأوا التاريخ قراءة جادة. وأيضاً فرانسيس شاب جنوبي كان يعمل معي وتلقى تعليمه في مرحلة الأساس بالشمال، ولكنه عندما جاءت لحظة الفراق لم يتوانَ في الرحيل إلى واراب، وعندما سألته لماذا تريد أن تذهب إلى هناك كان رده «دي بلدي»، نعم عندما وصل إلى هناك اصطدم بالواقع، وفي الأيام الأولى كان يتصل بنا من أجل مساعدته في العودة للشمال، ولكنه بعد أيام تعود على الحياة القاسية، ولكن الأوطان أكثر جاذبية وقوة من الحاجات الفردية، «بلادي وإن جارت عليا عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام». ظل أبناء الجنوب في كل العهود السياسية يعملون من أجل الوصول إلى البند الأخير في إتفاقية نيفاشا، التي كان للمستشارين الغربيين القدح المعلى فيها لاقناع القائد جون قرنق باتباع سبيل للحصول على الاستقلال أو الانفصال.. وقد عبرت الإتفاقية بصدق عن حق الآخر في تقرير مصيره مهما كان الثمن غالياً سياسياً، وقد تأخر قرار تقرير المصير عن الوعي السياسي السوداني مائة عام، وقد كان الإنسان في العالم كله يتساءل لماذا يجر السودانيون على أنفسهم الحرب والدمار، إذا كان الطريق أمام إنهاء الصراع واضحاً ومحدداً، لطالما هناك جهة تحارب من أجل السلام، لقد اعترفت ليبيا بأن حركة المتمردين في جنوب السودان حركة نضال ودعمتها بالسلاح في مرحلة من مراحل التاريخ، وكان كثير من الأخوة العرب يتساءلون عن أسباب الإصرار على الإبقاء على جنوب السودان في حظيرة الشمال رغم أنفه، ولكننا لم نكن نريد أن نسمع وقد كانت تطربنا مقولة السودان مليون ميل مربع. ونختم بقوله تعالى «ولا تهنوا ولا تحزنوا» والتي عبر عنها المهندس الصافي جعفر في كتابه«ولا تهنوا» نحن لم نكن سبباً في تقرير المصير ولا في الانفصال، وقد ضحت الإنقاذ بشبابها من أجل الإحتفاظ بوحدة الوطن، ولكن الحل السياسي كان هو المطلوب، وقد طرقت الإنقاذ كل الأبواب من أجل السلام سلام القوة، ولكن الانفصال كان أقوى وكان هو الحل المطلوب دولياً. المستشار الإعلامي برئاسة الجمهورية